أخيرا، بعد حوالى عامين ونيف من الزمن الذى شهد مفاوضات بأشكال مختلفة حول تشكيل وإطلاق اللجنة الدستورية كمدخل وكآلية للتسوية السلمية للأزمة السورية، وكانت روسيا وراء تلك الفكرة أساسا، ولدت اللجنة على أيدى المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا «غير بيدرسون». وكانت العقبة الثانية بعد قبول الجميع بلجنة مكونة من ١٥٠ شخصا تضم خمسين منهم يمثلون السلطات السورية وخمسين المعارضة وخمسين المجتمع المدنى، تتعلق باختيار أعضاء المجموعة الأخيرة والتجاذب المباشر وغير المباشر بين الأطراف الإقليمية فى هذا المجال. وتنبثق عن هذه اللجنة لجنة مصغرة تضم ٤٥ شخصا يمثلون المجموعات الثلاث. تقوم هذه بإعداد المقترحات الدستورية التى تقرها الهيئة الموسعة.
وقد وضعت ورقة معايير لعمل اللجنة وبقى أن تتفق على الأهم وهو وسائل الموافقة وتطبيق الإصلاح الدستورى الذى يتفق عليه، فى النظام القانونى السورى. وهذا يشكل أحد التحديات الرئيسية أمام اللجنة وتحديدا فيما يخص الإشراف الفعلى للأمم المتحدة على الإجراءات التطبيقية وتسليم السلطات السورية بذلك. ويشك البعض فى صعوبة الوصول إلى هذه المرحلة إذ يستدعى ذلك أساسا التوافق بين طرفى الصراع على حجم ومدى التغيير. ويقول البعض إن النظام يريد تغييرا تجميليا، فيما المعارضة تهدف إلى تغيير تحوّلى كامل يشكل قطيعة مع طبيعة النظام القائم حاليا.
ومن الضرورى التذكير بوجود اختلافات واسعة بين «المعارضات» السورية حول نظام الغد. كما أن الأكراد أبقوا خارج اللجنة تجاوبا مع الشروط التركية، كما لم تشارك قوى إسلامية قريبة من تركيا ووجهت سهامها إلى اللجنة ولم تعترض تركيا على ذلك طالما أنها مرتاحة إلى «تمثيلها» فى اللجنة.
متغيران أساسيان كانا وراء الولادة القيصرية للجنة: أولا، قناعة المعارضة وأصدقاؤها الخارجيون أن شرط إسقاط النظام لولوج باب التسوية السياسية قد سقط مع عدم خسارة النظام للحرب مع سيطرته على معظم الأراضى السورية رغم أنه لم يربح السلام وأنه بالتالى يجب الحوار مع النظام فى إطار مظلة دولية لأن التغيير المنشود سيأتى عبر مسار الحوار الدستورى. وثانيا، بالنسبة للنظام حلّت القناعة وفق نصيحة الحلفاء والأصدقاء، ولو بدرجات مختلفة بقبول الحوار مع المعارضة ضمن إطار دولى دون أن يعنى ذلك بالطبع أن النظام ملتزم بالذهاب إلى نهاية هذه العملية تجاوبا مع ضغوطات أصدقاء المعارضة.
ومن المفيد التذكير أيضا أن مشروع الإصلاح الدستورى الذى قدمه الروس فى مطلع انطلاق «مسار أستانا» كورقة مقترحات لإطلاق الحوار حمل نقطتين مهمتين، أولهما إنشاء «جمعية المناطق» كتأكيد على أهمية اللامركزية وحديث عن التركيبة الهوياتية المتنوعة للمجتمع السورى وضرورة تمثيل جميع هذه المكونات الهوياتية كمتغيّر أساسى يلامس بعض الشىء نموذج «الديمقراطية التوافقية» اللبنانى، دون بالطبع الذهاب بعيدا فى التفكير بالنقل عن هذا النموذج.
بيدرسون كان واقعيا جدا وحذرا عندما أعلن ولادة اللجنة وانطلاق أعمالها فى هذا الشهر بقوله إن النجاح، إذا ما حصل، فإن وضع دستور جديد يمكن أن يساعد فى تسوية الخلافات فى المجتمع السورى كما يمكن أن يساعد فى بناء الثقة وكذلك فى فتح الباب أمام عملية سياسية أوسع نطاقا.
واقعية بيدرسون بأن انطلاقة ناجحة للعملية الدستورية أمر غير مؤكد، تدفعنا للتأكيد على وجود سيناريوهات ثلاثة:
أولا: أن تكون ولادة اللجنة بمثابة هدنة أو نوع من الهروب إلى الأمام من قبل كل من الطرفين لعدم تحمّل مسئولية إفشال الحل السياسى إلى أن يستقر توازن جديد للقوى على الأرض فى سباق المراهنات بين أطراف الصراع على الإمساك بمزيد من الأوراق للانتصار على الآخر وفرض شروطه لاحقا.
ثانيا: التحوّل من الصدام الكبير والمفتوح مع بقاء حروب صغيرة فى مساحتها وكثافتها ضمن إطار تقطيع الوقت ليحلّ زمن المفاوضات المرتبط بما أشرنا إليه سابقا من الإمساك بالأرض وانتصار حلفاء أحد الطرفين وفرض شروطه من الخارج.
ثالثا: انطلاق عملية الحل السياسى ولو ببطء عبر بوابة اللجنة الدستورية من خلال توافق «الخارج» ــ أى أصدقاء الطرفين. لذلك دعا بيدرسون لإنشاء منتدى إقليمى دولى موسّع يدعم ويواكب المفاوضات السورية السورية. منتدى يضم دول المجموعة المصغرة لسورية ودول عملية أستانا، التى قد لا تنضم فى لجنة واحدة بداية بسبب الصدام الأمريكى العربى مع إيران، ولكن يمكن إيجاد صيغة فى البداية بواسطة الأمم المتحدة ودول وسيطة ضمن المجموعتين لبناء جسور وتفاهمات تحتضن وتدعم التسوية السلمية فى سوريا.
وكما نذكر دائما بالنظر إلى التجربة اللبنانية التى وضعت حدا للحرب اللبنانية بأن «الطائف» الداخلى (الحوار الوطنى اللبنانى فى مدينة الطائف فى المملكة العربية السعودية) قد استدعى وجود «طائف» خارجى (تفاهم بين القوى المؤثرة حينذاك فى لبنان) على ولوج باب التسوية قبل أن يغرق المركب بالجميع.
كاتب سياسى لبنانى