تعيشوا وتفتكروا - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:48 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تعيشوا وتفتكروا

نشر فى : الأربعاء 8 نوفمبر 2017 - 10:35 م | آخر تحديث : الأربعاء 8 نوفمبر 2017 - 10:35 م
كثيرا ما أفكر بالاختلافات المجتمعية المتعلقة بمواجهة الموت وترتيب مراسم العزاء. قد تتشابه طقوس العزاء بعض الشىء من بلد إلى آخر، لا سيما حين يجتمع أفراد عائلة الفقيد وأصدقاؤه فى محاولة للتخفيف من حزنهم لحظة الفراق وفى الساعات والأيام التى تليها. قد تتشابه العادات فى سوريا وفى مصر وغالبا فى بلاد أخرى كثيرة، حين يتكفل أحدهم مثلا بتحضير طعام الغداء يوم الدفن بينما يتعهد آخر بتحضيره فى اليوم الثانى، وذلك فى مساهمة من المقربين بالتخفيف من مصاب العائلة ولو حتى من ناحية عملية أو لوجستية.
***
لكن الموضوع أخذ أبعادا أخرى بالنسبة لى حين زرت مرة بيت صديقة مكسيكية ورأيت أنها رصت على طاولة فى منزلها صورا لأشخاص لا أعرفهم ووضعت معهم أدوات بدت لى أنها شخصية، كفنجان من القهوة أمام صورة سيدة مع طبق فضى صغير فيه سيجارة لم تشعلها. خمنت أن السيدة قد تكون جدة صديقتى، لكن ذلك لم يشرح لى موضوع وضع فنجان القهوة والسيجارة أمامها، كما زاد من دهشتى وجود سيارة صغيرة من طراز السيارات التى يلعب بها أطفالى كانت صديقتى قد وضعتها على الطاولة بالقرب من صورة طفل مجهول الهوية بالنسبة لى.
***
بدت لى الطاولة كمحراب وقد أضاءت الصديقة شمعة فى وسطها ووضعت بعص الأزهار بين الصور. حين رأتنى أمعن النظر فى طاولتها فى كل مرة أمر بها أمامها، سألتنى إن كنت أعرف عن تقليد «يوم الموتى». طبعا لم أكن أعرف شيئا عن التقليد، إذ لم يكن قد خطر على بالى قط أن يخصص يوم للموتى كما فهمت من العبارة. شرحت لى صديقتى المكسيكية أن يوم الموتى هو يوم مخصص لذكرى جميع من فقدتهم أى أسرة مكسيكية، فهو مناسبة سنوية تحيى فيها العائلات ذكرياتها الجميلة مع أشخاص أحبوهم فيحيطون صورهم بأشياء كانوا يستمتعون بها. وهكذا شرحت لى صديقتى أنها تقدم لجدتها فنجانا من القهوة الغامقة كما كانت تحب أن تشربها فى صباها، فالصورة للجدة وهى فى ما أراه أجمل عمر للمرأة، أى فى الأربعينيات، تنظر إلى الكاميرا بمزيج من الهدوء والثقة، بينما تداعب أشعة الشمس بشرتها الخمرية وشعرها الأسود. أتخيلها فى بيتها هناك فى المكسيك، سيدة قوية ترأس عائلة كبيرة، مطبخها بلاطه ملون وأطباقه خزفية حمراء وصفراء. صوت الأولاد وهم يلعبون خارج البيت يذكرنى أصلا بصوت أطفال حارة بيت جدتى فى دمشق. ما علينا، ها قد أسقطت على حياتى وعلى ذكرى جدتى صورة جدة الصديقة المكسيكية.
***
لقد أدرجت منظمة اليونيسكو، وهى المنظمة المعنية بالحفاظ على التراث والثقافة، يوم الموتى المكسيكى ضمن لائحة التراث الثقافى غير الملموس، وهى لائحة تسعى من خلالها المؤسسة إلى التمسك بعادات مجتمعية لها دلالات مهمة على ثقافة الشعوب، وتظهر تنوع الثقافات حول العالم. أن أحتفل بحياة شخص ذهب بدل أن أظهر حزنى عليه فى كل مرة أتذكره بدا لى كمفهوم غريب للتعامل مع ألم الرحيل. أوليس فرح كهذا انتقاصا من هول الموت وعدم احترام لمن تركنى؟
***
أن أتذكر أخى الذى مات طفلا لكن دون أن أركز على رحيله فأراه وهو يلعب بالكرة تحت بيتنا، مشرق الوجه أزرق العينين، طفل خجول عاطفى كان يلتصق بى ونحن نجلس فى الحافلة التى تقلنا إلى المدرسة. أن أتذكره ببشرته الناعمة المحمرة ونحن نتأرجح ونركض فى الحديقة، يختبئ فأبحث عنه وسرعان ما أقلق من غيابه. كيف لا وأنا أخته الكبرى المسئولة عنه أثناء وجودنا خارج البيت. يبدأ قلبى بالدق السريع حتى أرى طرف قميصه الأزرق من خلف شجرة. أن تظهر لى جدتى لأبى كما كنت أراها فى أول يوم من كل عيد، جميلة بوجهها الصافى وشعرها الكثيف الذى احتفظ بلمعته حتى آخر أيامها. تجلس جدتى كالملكة وتشعل هى الأخرى سيجارة بينما ترتشف قهوة الصباح. صوتها فيه بحة خفيفة وكلماتها دافئة فى كل الأوقات، فجدتى لا تغلط فى الكلام ولا تضع نفسها فى موقف يزعج منها أحد. أن أعيد تركيب قصص سمعتها من أمى وأقربائى عن جدى لأمى فيظهر أمامى ذلك الرجل الهادئ الوديع حسن المظهر واللسان. يحملنى وأنا رضيعة فأهدأ بينما يلقبنى بالأميرة. جدى رحل فى سنتى الأولى لكن ذكره الطيب بقى ملتصقا بجدران البيت وذاكرة كل من عرفه.
***
قد يكون الاحتفاء بحياة من ذهبوا طريقة أكثر وفاء لهم وأقل ثقلا على قلب من يفتقدونهم من الاستمرار فى شد غطاء الحزن على حياتنا بعد رحيلهم. ها أنا أسمع صوت صديقة وهى تصر على أن أزيد كمية الكزبرة على طبق الدجاج الشركسى قبل تقديمه. هى رحلت وتركت معى قصصا أحكيها لأولادى فيهيأ لهم أنهم عرفوها. أنا نفسى أشعر أحيانا وكأننى أتمرغ فى تفاصيل حياتية عادية ويومية كأننى أحضر أولادى ومن حولى لاسترجاع الكثير من الذكريات إن رحلت عنهم، ها أنا أطالبهم بشكل استباقى أن يحتفلوا بما عشناه معا بدل من أن يحزنوا لتوقفنا عنه. أريدهم أن يضعوا صورتى كما فعلت صديقتى المكسيكية على طاولة ويرصوا قربها حلويات خبزوها بنكهة ماء الزهر، أريدهم أن يستمعوا إلى القدود الحلبية وأن يلفوا إطار صورتى بشال من الحرير الأحمر، لونى المفضل حاليا. أريدهم أن يشعروا فعلا بالعبارة المصرية التى فهمت أخيرا عمق معناها: تعيشوا وتفتكروا.
تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات