عندما يُدافع الفلسطينيّون عن السيادة الغذائيّة - مواقع عربية - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 2:41 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عندما يُدافع الفلسطينيّون عن السيادة الغذائيّة

نشر فى : الجمعة 8 ديسمبر 2023 - 8:20 م | آخر تحديث : الجمعة 8 ديسمبر 2023 - 8:20 م
نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة وفاء البوعيسى، عرضت فيه محاولات الاحتلال الصهيونى محو الهوية الفلسطينية بالاستيلاء على المزارع والتضييق على المزارعين بهدف تجويع الفلسطينيين والسيطرة عليهم، مع الإشارة إلى المجهود الفلسطينى لمواجهة هذا التهويد لإضعاف السيادة الفلسطينية الغذائية... نعرض من المقال ما يلى.
الفلسطينى مزارع مذ خُلق، وعندما احتلت جماعات صهيونية استيطانية بلده، بدأ الاستيلاء الممنهج على أرضه وخيراتِها. وكم تعرضت علاقته بالأرض إلى عديد من المقاطعات، وعمليات التهويد بهدف تجويعه وعزله عن الطبيعة، وتقاليد علاقته بها، حتى وصل الأمر، ويا للمفارقة، إلى السطو على أطباق مائدة طعامه الموروثة وتهجيرها لإسرائيل والإسرائيليين.
إنّ أى تقرير زراعى يخص فلسطين اليوم سيُظهِر تنبؤات مروعة لهذا القطاع، بسبب القيود التاريخية الثقيلة التى فرضتها الدولةُ العبرية على الزراعة المروية أو البعلية؛ إذ سيطرت على المخزون المائى فى الأراضى الفلسطينية منذ العام 1967، فهى تَستخرج 85% من العائد السنوى من طبقات المياه الجوفيّة فى الضفة، وتترك 15% منها فقط للفلسطينيين. كما تَمنح بعض المستوطنات هناك ماءً يُعادل 21 مرّة أكثر ممّا تمنحه للقرى الفلسطينيّة المُجاورة.
كما سَيطرت على الأراضى الزراعيّة: فمن ناحية احتلت غصبا 63% من الأراضى الصالحة للزراعة فى الضفّة وحدها، وقدَّمتها لمُستوطنين للعيش فيها والبناء عليها.
أمّا وادى الأردن، الذى تقع 85% من أراضيه من ضمن المنطقة (ج) فى الضفّة الغربيّة، وقد كان فى يومٍ ما «سلّة الغذاء لفلسطين»، فيُعَدّ اليوم مثالا على الاستيلاء المنهجى على الأراضى والمياه وتدمير سُبل عيش الفلسطينيّين. كما ركزت سياساتها على تعزيز قطاعها الزراعى وحده، من خلال جعل مُزارعيها الأثرياء أكثر ثراء، وذلك بإحلال تكنولوجيا متقدمة فى مزارعهم، ومَنعتِ الفلسطينيين منها. وقامت بتحويل الأراضى الخصبة مثل مرج بن عامر إلى مناطق صناعيّة تُديرها شركات متعدّدة الجنسيات. وبهذا أصبحتِ المزارع الفلسطينية جافّة ومدمّرة ومهجورة.
أما المزروعات البعلية القابلة للأكل مثل: الزعتر والفقوس والعكّوب والجمّيز والخبّيزة، فتُعتبَر من الأنواع الأكثر شيوعا وانتشارا فى فلسطين، ولطالما كانت العمود الفقرى للأنشطة الزراعيّة لسكّانها. وقد ساعدت، على مرّ العصور، المُزارعين على تجذير أراضيهم، والحفاظ على المعرفة القديمة بالزراعة والقطاف، وفهْم أصناف المحاصيل، وتنكيه أغذيتهم الفريدة من نَوعها. كما وصُفت الزراعة البعلية بأنها نظام زراعى إيكولوجى مَرِن، هيّأ المزارعين للتكيُّف مع الظروف الاقتصادية المقيدة، إلى جانب الظروف السياسية الصعبة. ومع ذلك، لم تتركها سلطةُ الاحتلال لحالها، بل سَطَتْ على جميع تلك الأنواع واحتجزتها فى سجونٍ كبيرة سمَّتها محميّات، وسيجت المكان بالأسلاك الشائكة، ومَنعتِ الفلسطينيّين من مجرّد الاقتراب منها، ومَن يُخالف التعليمات يَدفع غرامة. أمّا زراعتها سرّا فى مشاتل، فمن عواقبها مُصادَرة النبتة والمَشتل مع غراماتٍ باهظة.
• • •
سارعَ الفلسطينيّون إلى التخطيط لحملاتِ مُقاطعة البضائع الإسرائيليّة البديلة، بالتعاون مع 171 منظّمة غير حكوميّة انضمَّت إليها شخصيّاتٌ حكوميّة. قاموا جميعا بمُراقبة كلّ بضاعة إسرائيليّة تنزل فى المحالّ الغذائيّة ووضعوا عليها ملصقًا يقول: «بشرائكَ لهذا المُنتَج، يعنى أنّكَ تتبرَّع للجيش الإسرائيلى». فبقى المُنتَج على الرفوف لم يشتره أحدٌ حتّى انتهت صلاحيّته، وعندما تصل بضائع جديدة، تكون المنظّمات والجمهور الفلسطينى فى الانتظار لتنفيذ العمليّة نفسها.
وفى الناصرة، دخلتِ النساءُ على خطّ النضال من أجل تعزيز المائدة الفلسطينيّة الصحيّة، ووقْف تأثير التهويد على ذائقة الأجيال المُقبلة من خلال مشروعَيْن سياحيَّيْن فريدَيْن من نوعهما. إذ تعاقدتِ السيّدةُ سالى عزّام مع مئات النساء من أمّهات الشهداء والأسرى والمُهجَّرين واللّواتى تعرَّضْنَ للعنف، على تحويل عددٍ من السيّاح الذين يأتون للمنطقة إليهنّ لتناول الطعام. فتُقدم لهم ربّة البيت مائدةً فلسطينية عامرة وزاخرة بالنكهات؛ ثمّ تسرد قصتها مصحوبة بوثائق وأدلة. كما تعاقدت مع أخريات لا قصصَ شخصيّة لديهنّ ليسردْنها، فقط يزوِّدْنَ مقهى إيوان، الذى تديره عزّام فى سوق الناصرة، ببعض المأكولات الفلسطينيّة الخفيفة لمُرتاديه من السيّاح ليتعرَّفوا على تراثهن الغذائى الضارب فى القِدَم، وليَبثوا لهم لوعةَ الزيتون، الذى يسرقه مُستوطنون فى السرّ والعَلن ويبيعونه بآلاف الدولارات، وشيخوخةَ البرتقال حين يُسقى بموادٍ كيمائيّة بعيدا من مسقط رأسه فى يافا وغزّة، واحتجازَ الزعتر سنين خلف القضبان بلا ذنب ارتكبه، واستشهادَ القسطل عطشا والماء بجواره، ليخرج السيّاحُ بوعى جديد لِما تفعله سلطةُ الاحتلال بحقّ الفلسطينيّين، بما فى ذلك حرمانهم من طعامهم التقليدى التاريخى، ونشْره فى بلدانهم. وقد جلبَ السيّاحُ آخرين، والآخرون جَلبوا خبراء بيئة وحقوقيين للناصرة وغيرها.
مشروع «أمّ سليمان»، وهى قرية زراعيّة قرب رام الله، استعادها أهلها من إسرائيل بعد عقود ليهبوها للجيل الجديد لاستزراعها.
وعلى الفور تولى المتطوعون زمامَ الإشرافِ على استخدامِ الأرض، وإنتاج الغذاء فيها لمُواجَهة الفقر الغذائى فى ظلّ الاحتلال عبر استخدام التنوع البيولوجى للحفاظ على المَوارد الطبيعية، وزراعة الأنواع المحلية فى فلسطين لفائدتها فى تجديد التربة، والتحكم فى التسميد، وإدارة النفايات باستخدام الطرق الطبيعية، مع استخدام تقنيّة الحفاظ على المياه لمقاومة ندرتها الناجمة عن السيطرة الإسرائيلية. وكان أول إنتاج عضوى صحى كافيا لـ 8 عائلات. وثانى إنتاج كان كافيا لـ 45 عائلة؛ وإذ بأم سليمان اليوم تتحوَّل إلى مشروعٍ تجارى مُزدهر يوفِّر الغذاء لعشرات العوائل فى محيطها المحلى. وقد عَرَضَ عددٌ من المُشرفين على المشروع التطوعَ لتعليم قرىً أخرى أساليب الزراعة المُستدامة، والتوقُّف بالتالى عن الاعتماد على الطعام الإسرائيلى.
أمّا أهمّ مشروعات المُقاوَمة بالزراعة، فهى شركة «كنعان للتجارة العادلة»، ومكاتبها مُنتشرة اليوم فى قرية برقين، بالقرب من جنين. إنّها من بنات أفكار د. ناصر أبو فرحة.
جاءت فكرةُ كنعان بداية الألفيّة عندما كان أبو فرحة يُجرى بحثا للحصول على الدكتوراه فى الأنثروبولوجيا فى أميركا. وأثناء سفره ذهابا وإيّابا بين أمريكا والضفّة الغربيّة، أفزعته الأسعار المُنخفضة للزيتون، حيث تتقاعَس إسرائيل عن شرائه إلى ما بعد موسم القطاف فى أواخر الخريف بالذات، وذلك حتّى ينخفض السعر إلى درجة لا تحفز على زراعة الأرض فى الموسم المُقبل. فكَّر أبو فرحة فى تغيير الوضع للأفضل، حتّى يتسنّى للمُزارعين البقاء فى أراضيهم والحفاظ على الزيتون كمحصولٍ اقتصادى قابلٍ للحياة بشكلٍ مُستدام.
• • •
كانت الزراعة فى الضفّة الغربية لا تزال شأنا عائليا إلى حدٍّ كبير. إذ كان لكلّ عائلة قطعة أرض صغيرة يعتمد عليها أفرادها اقتصاديّا. وهذا ما جَعلهم مُعرَّضين بشدّة لسياسات إسرائيل العسكريّة والاقتصاديّة التعسّفيّة. لكنّ أبا فرحة خَلُص إلى أنّه إذا نظَّم المُزارعين ليعملوا معا والتزموا بالسياسات الصارمة للزراعة العضويّة، فإنّه من المُمكن أن يؤسِّسوا جيشا زراعيا صامدا مثل شَجَرِ زيتونهم.
بدأ أبو فرحة بالسفر عبر منطقة جنين، محاولا إقناع المُزارعين بالانخراطِ فى شركته والعمل معا.. وبأنّ نجاح مشروعهم يعتمد على إنشاء جمعيّات تعاونيّة تَجمع مواردهم لتقوم كنعان بتسويقها.
وفى مرحلةٍ ثانية التزمتِ المَزارعُ الموحَّدة باستخدامِ تقنيّاتٍ تتوافق بشكلٍ وثيق مع الزراعة العضويّة الحديثة. وطوَّرت مع كنعان أوّل معيارٍ مُعترَف به دوليّا للتجارة العادلة لزيت الزيتون، وبدأتِ الشركةُ فى اعتماد المُزارعين المؤهّلين لذلك بشكلٍ خاصّ.
أمّا ما دفعَ بكنعان للواجهة، فكان أنّها وفَّرت عنوانا مركزيّا يُمكن لتعاونيّات القرى أن تبيع إليه ثمار الزيتون ومعصوره، مع ضمانِ سعرٍ ممتاز. بمعنى أنّ المُزارعين لن يبيعوا بشكلٍ فردى للإسرائيليّين بعد الآن، بل سيبيعونه بشكلٍ جماعى لكنعان وحدها، وهى تقوم بتسويق منتجاتهم داخل إسرائيل وخارجها. وتُعتبر كنعان اليوم الوجه الدولى للجمعيّات التعاونيّة للمُزارعين الفلسطينيّين، وهى تسعى إلى تطوير أسواقٍ جديدة للاستثمار فيها. وتضمّ كنعان حاليّا 52 قرية تمَّ إنشاؤها كتعاونيّاتٍ مُنفصلة، كما تُمثِّل 2000 مزارع، والعدد فى ازدياد.
لقد تأسَّست حملاتُ المُقاطَعة ومشروعات نساء الناصرة، وإيوان، وأمّ سليمان، وشركة كعنان لإعادة تصوُّر المُقاوَمة كجهدٍ مُجتمعى مُتجذِّرٍ فى تقاطُع الجوانب الاجتماعيّة والاقتصاديّة والبيئيّة. والأهمّ أنّها تحدَّت آثارَ التهويد باستخدام السيادة البيئيّة لتكون الزراعةُ هى خطّ الدّفاع الفلسطينى الأوّل عن وجوده وهويّته، وسيادته الغذائيّة. فمَن لا يملك طعامه، لا يملك حريّته.
النص الأصلى

التعليقات