جاءتنى بخطى ثابتة بعد أن دخلت مسيرة النساء لميدان التحرير فى نوفمبر 2011 بعد اندلاع أحداث مصطفى محمود الأولى وقالت يجب أن تقوم النساء بعمل حائط بشرى لمنع نزيف الدم، فذهبت وسألت أحد الشباب، فقال: «دى بهدلة» ولا نريد أن تصبن بأذى.. فرجعت وقلت ذلك، فقالت لا تسأليهم.. فرجعت فقلت له أمامكم خيران إما أن تدعو الرجال للتقدم أو نقوم بذلك.. فبدأ النداء لاستدعاء الشباب فلم يجبه إلا القليل.. هناك قرر النسوة وبدأن فى التحرك رافعات أيديهن عاليا ويقلن: حائط بشرى..! عندئذ بدأ الشباب فى التحرك: خجلا أو شجاعة أو غيرة.. لا أعرف، لكن العدد بدأ يزداد، وعندما وصلنا للشارع طلب الشباب أن يكون حائط النسوة هو الأبعد عن منطقة العنف فقبلنا، وبدأت انظم الصفوف ووضعت خطأ يدى على جسد هذه الصديقة فقالت «رفقا: أنا حامل» فقلت كيف تقفين هنا والطفل!.. فقالت لكى يكون رجلا!.. هذه هى المقاربة الجديدة التى وضعتها النسوة المصريات فى الثورة تحدت بها المقاربات النسوية الغربية، ومقاربات الخنوع التقليدية العربية: فلقد عرفت نفسها باعتبارها مواطنا، وفى عباءة المواطنة رأت بأن عليها واجبات تتساوى مع واجبات الرجل.. هذه المقاربة تقوم على المزج بين الموروث والمعاصر: استدعاء الموروث الثقافى الصحى «إنها الوتد بلغة أهل الصعيد» والمعانى الحضارية الإسلامية: النساء شقائق الرجال.. فشاركت منذ الوهلة الأولى فى الثورة وهناك شُتمت وضُربت وسُحلت وتعرت واُعتقلت مثلها مثل الرجل، واستمرت فى جهادها كتفا بكتف مع الرجل مستلهمة قول الله تعالى «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه» فرأت أن الله فى تميزه بين الرجولة والذكورة أن الأولى تشير لمنظومة من القيم والأخلاق والأفعال المتناسقة معهما، أما الثانية فهى مرتبطة بالقدرات الجسدية وغيرها. وهكذا فهى لم تجد بأسا فى المشاركة وفى التضحية حتى بالجسد!
•••
ومن متابعتى للجدال حول وضع المرأة فى قوائم الانتخابات، لا يهمنى كثيرا ما وصلت إليه عملية البيع والشراء ولكن يهمنى الطريقة التى أديرت بها فهى عملية انقلاب على مقاربة الثورة بامتياز نفذتها الأحزاب السياسية فبالنسبة للأحزاب الإسلامية، لا أفهم موقفهم هل يعود إلى أنه لا يوجد نساء لديها مؤهلات للمشاركة فى الحياة النيابية وإذا كان هذا هو المعيار فلما لا نستخدمه أيضا فى مواجهة الرجال ألم يعمد نظام مبارك على تصحير كل التيارات من كفاءات ادارة الدولة أم أن الازدواجية هى الحل! وهذا أيضا يصدق على الأحزاب العلمانية، فلم أسمع منهم تشنجا أو حتى همسا عن حالات التحرش والاغتصاب فى الميدان!، فلماذا إذن ترفع هذه الورقة فى الاجتماعات الخارجية.. لأنها ورقة رابحة لاستدعاء الخارجى: أو ليس كذلك؟ وإن لم يكن فلما لم تضع تلك الأحزاب النساء على رءوس قوائمها فى الانتخابات البرلمانية الماضية: أو ليست تجارة.. وبئس التجارة!
وعلى الجانب الآخر، مؤسسات حقوق المرأة فى مصر «حراس معبد سوزان القديم» وانفصالها المستمر عن الواقع وديموميتها فى البقاء عند قشرة السطح، فهى لا يمكنها أن تعيش بدون المقاربة الغربية التى تقوم على وضع المرأة فى مقابل الرجل فهى له «آخر»: وبالتالى تقوم بطرح نفس الأسئلة فى تحليل وضع المرأة من خلال إعدادهن فى البرلمان والوزارات، وهى تختلف عن مقاربة الثورة التى تقوم على الفعالية وليست العددية. وهى لابد أن تقوم بذلك وإلا لن تستطيع أن تبتز المؤسسات الدولية للحصول على التمويل الذى تقتات عليه.
ومن ناحية ثالثة: لا أرى تحركا حقيقيا من الدولة: الحزب الحاكم ولا أحزاب المعارضة لجريمة الاغتصاب التى وصلت أن تكون جماعية تحت سمع وبصر الجميع: لقد آن الأوان أن توقف عن الشعور بالقرف والاشمئزاز وأن تقوم الدنيا ولا تهدئ فى مجلس الشورى وفى كل ميدان وفى كل مسجد وكل كنيسة، بل فى كل بيت على هذه الجريمة التى تحدث صباحا ومساء مانعة المواطنات المصريات من أن يعشن إنسانيتهن التى خلقها الله ومواطنتهن التى أقرها الدستور. حان الوقت لأن يصدر قانون التحرش الجنسى والتعرض للأنثى وأن يغلظ فيه عقوبة المتحرش صغيرا كان أو كبيرا، فهو جزاؤه كذلك يُجزى الظالمين!
فى الحقيقة، إن النضال التى سطرته الحركة النضالية المصرية فى الثورة لم يفرق بين انثى وذكر، وإنما أعلى من مفهوم المواطنة وهناك لا حديث حول هذه التفرقة القميئة التى تلوك بها الألسن من جميع الحركات، فالنضال لم يكن بتحدى المجتمع وإنما يتصالح معه، إننا جميعا ندفع ثمن الانقلاب على مقاربات الثورة، بداية من السلمية مرورا بقبول التعددية الفكرية وحتى مقاربة المواطنة الكاملة!
•••
وأخيرا، يبقى لى ثلاث نقاط:
الأولى: لا أنسى ما تتعرض له الحرائر السوريات، فهن أيضا يدفعن ثمن الحرية والثورة! ولكن ستسألون!
الثانية: هو فهم السلف الصالح لدور المرأة: ألم يكن فيه السيدة نسيبة بنت كعب التى دافعت بالسيف عن النبى صلوات الله عليه فى غزوة أحد، ولم ينهها الرسول بل قال (ما رأيت مثل ما رأيت من أم عمارة فى ذلك اليوم....)، ولم ينهها الصحابة عن المشاركة فى حرب اليمامة. هنا أدعو كل من الشيخين الجليلين ـ فقط ـ القرضاوى ومحمد اسماعيل المقدم أن يفسرا لى فى ضوء هذه الواقعة وغيرها فهم السلف الصالح لوضع المرأة. (وأدعوهما بالجليلين لأن كليهما تعلّم كلام الله وعلّمه، فى الوقت الذى ادعى كثيرون المشيخة فما رعوها حق رعايتها ولم يصبهم منها سوى جلباب!).
الثالثة: صديقتى لم تكن نكرة كى استخدم الغائب فى الحديث عنها فهى السيدة أسماء رضى ـ ترتدى نقاباـ وطفلها اسمه تميم لعله يكون رجلا تام الخلق والخلقة ولعله يكون رجلا ولا يكون فقط ذكرا وهم كُثر، ولعله أخيرا يجلب الخير لمصر بعد ليالٍ سيطرت عليها المراهقة السياسية من الجماعات والأحزاب والحركات والجبهات!
مدير البرامج الثقافية ـ مؤسسة مدى للدراسات