مشهد قيام أحمد الشحات بإنزال العلم الإسرائيلى ورفع العلم المصرى خفاقا على سفارة اسرائيل مزلزلا القلوب والحناجر، فى الوقت الذى يفكر فيه السياسيون فى كيفية التصرف مع إسرائيل، وفى الوقت الذى يواصل فيه الفرقاء السياسيون و«المثقفون» فى مصر أزماتهم ما بعد الثورة وتصعيد خلافاتهم حول «الفراغ» مسببين حالة من الاستقطاب الشديد فى الشارع المصرى، مشهد يذكرنى بيوم تنحى مبارك، عندما كان المثقفون والسياسيون فى الصباح يطالبون المتظاهرين بفض الاعتصام إذا ما ضمن الجيش ما جاء فى بيان مبارك الأخير ولم يستمع لهم الشعب ورد عليهم ليلا بتنحى مبارك. هذا مشهد البقاء داخل الصندوق ومشهد الخروج منه. فالشباب والشعب قررا الخروج عن المألوف، عن الحسابات الضيقة والرتيبة، والمستقطبة، ورسموا خطا جديدا فى تاريخ مصر، بينما بقى المثقفون بين حائر وبين منظر، ومتنبى، ومرشد، ومهلل، وفى كل هذه الأحوال لا يمكلون من الأمر شيئا فهم عاشوا طويلا داخل الصندوق وظلوا هناك لا حول لهم ولا قوة، فهم ليسوا فى معادلة الثورة التى اختارت أن يضعها شباب وشعب ذاق الأمرين من نظام جائر، ونخبة مثقفة وسياسية عاجزة عن الحل، بل ومشاركة بشكل أو بآخر فى شرعية النظام طيلة ثلاثين عاما بل أكثر.
نخبة قررت الوجود فى مواطن لم يكن لها يد فى إحداثها، لذا كان لابد لها أن تعمل على جذب هؤلاء الشباب إليها، وللأسف عاد من عاد إلى الصندوق، وبقى من بقى خارجه، والعودة لم تكن حميدة أبدا، لأن الأمراض التى ابتلى بها المثقفون هى أمراض مزمنة تتركز فى عدم القدرة على الحياة دون استقطاب وشد وجذب، ونقد ليس له قرار، وإشعال الحرائق من وقت لآخر تحت ما يسمى بالتنظير والتنبؤ بسير الأمور، فلم تترك الفرصة للشباب ولا للشعب أن يختار نخبته الجديدة بحرية، ولم يترك للشباب أن يقوموا بدورهم الحامى والحافظ على الثورة بعيدا عن الصراعات الوهمية التى تكاد أن تقضى على الثورة فى مرحلتها الثانية والحرجة، فما انفكوا أن تركوا دورهم الحقيقى الموازن لكل القوى السياسية وانخرطوا فى خلافات لا يفهم الشارع أولها من آخرها، بدايتها من نهايتها، داخلها من خارجها!
والحل هو أن تعتكف النخبة «المثقفة» والسياسية» لمدة عشرة أيام مباركة بل شهر عن الكلام والتنظير والتنبؤ وأن تترك الساحة لنخبة جديدة تعيش مع الشعب فى أزقته المقرفة والمليئة بالقمامة، فى أيامه الصعبة والمليئة بالجوع والعطش، فى مزارعه العطشى والمتآكلة، فى حدائقه الغائبة، فى مستشفياته غير المؤهلة لاستقبال الإنسان ولا حتى الحيوان، فى مصانعه المنتكسة أدخنتها، فى كنائسه القديمة ومساجده العريقة، نخبة لم يمسها شوائب ولم تنحاز لطرف سوى الوطن ولديها المفاتيح الحقيقية والمبتكرة لمشاكل الوطن الحقيقية: والتى ليست مدنية أو إسلامية، وليست هوية أو غير هوية، وليست رئاسية ولا برلمانية بل هى عيش وحرية وعدالة اجتماعية.
اليوم إسرائيل وغدا أنتم، يبقى العلم المصرى خفاقا مرفرفا فوق الأعناق، وتبقى مصر فوق الجميع، ويبقى وجه ربك ذى الجلال والإكرام. فقط وكفى!