ثلاثون عاما والشركة أو المؤسسة كما كان يحب أن يسميها «ماشية» رغم الصعاب والأزمات وكذلك بعض من الأوقات الجميلة.
***
ثلاثون عاما تمر أمامه كالشريط بتلاوين مختلفة، مدن ومحطات وقطارات وطائرات وبيوت كثيرة، ربما التسمية الأنسب لها مساكن متعددة وأطفال بالتحديد أربعة فى ثلاثة عقود. كبروا فلم يعودوا أطفالا يستمعون إلى نقاشاتنا التى لا تخلو من الحدة أحيانا بل ربما بعض من الصراخ عندما كنا أصغر. هناك فى ذاك الزمن كنا نعلل نقاشاتنا الحادة، اختلافاتنا، زعلنا، صراخنا وابتعادنا أحيانا، نعلله إلى الأسباب التقليدية فى مثل هذه المؤسسة؛ ضغوطات الحياة، كثرة المصاريف وقلة المداخيل، الأولاد باختلافاتهم والمسئوليات التى تزيد مع الأيام بدلا عن أن تنقص عندما تواعدنا أن نقتسمها فى لحظات الرومانسية الأولى؛ حيث كانت الابتسامة، ثم الضحكة، ثم اللقاء، ثم سكينة اليد باليد، وحديث الحب فى المساحات الهادئة.
***
راح يمر عليها بذاكرة حادة يعيش تفاصيل الأحداث فى ثلاثين سنة، يتوقف كثيرا عند الاختلاف أما ما قبل ذلك وما بين خلاف وخلاف من سكينة فلا يستوقفه، حتى عندما تكررت الأسئلة من قبل أصدقائه المقربين فى محاولة لتذكيره بأن هناك أيضا كانت سويعات من الصفاء والسكينة، كان يحاول أن يجيب وكأنه يبحث عن إبرة فى كومة من القش!!! ينبش دماغه، يرجع بالسنين للوراء، ويبحث عن الصور القديمة ربما تنعش الذاكرة الميتة.
***
ثلاثون عاما لا يتذكر منها إلا الكثير من التعب والجرى والمجادلات العقيمة والسهر بحثا عن قرار ينهى هذه الحالة المستمرة من اتساع الفجوة.. حتى إنه استيقظ فى ذات صباح لينظر لها، هى النائمة معه، شريكته كما يسمونها وهى أيضا الشخص الذى لم يعد يعرفه ويكرر على نفسه السؤال «من تكون هذه المرأة؟».. يضحك كما اعتاده أصدقاؤه، هو الباحث عن الفرح بين مساحات الظلمة والحب حتى آخر نفس والنوم فى مساحات بيضاء لم تتدنس بنكد لا نهاية له! يضحك ربما لأنه السبيل الوحيد لكى لا تموت المؤسسة ولكى نكمل المسيرة الطويلة ولأنه يعرف تماما أنه لن يستطيع أن يتحمل تخليه عن مسئولياته تجاه «الشريكة» والأولاد رغم أنهم كبروا ونضجوا وأصبحوا أكثر تفهما لما كانت كوابيس أيام كثيرة عندما كانوا أطفالا صغارا لا يفقهون معنى المؤسسة!
***
قال إنه فى ذاك المساء سيكون أمام محكمة العائلة.. دعت «الشريكة» لها وأحضرت الأولاد من كل حدب وصوب، أما الحضور الفيزيائى أو كما هو الحال مع العمل عن بعد فى زمن الكورونا عبر الزووم أو سكايب.. بعينين حزينتين التقى شلة من أصدقائه المبعثرة فى بقاع الكون وقال لهم «أنتم الأقرب جئتكم لتنقذونى» استغرب الحاضرون من طلبه. أوضح، معظمكم دخل المؤسسة، بعضكم لا يزال سعيدا بها، أو هكذا يبدو، وآخرون هربوا منها قبل أن تتحول إلى «الدولة العميقة»! «انصحونى نصحكم الله فى هذا الشهر الكريم الصائمون منكم والفاطرون»!! بعد كثير من الأسئلة التى كانت إجاباتها معروفة جدا لهم جميعا، ساد صمت طال حتى ضاق هو به.. الأكثر جرأة أو الفدائى بينهم تبرع بالنصح «يا صديقى لم يتبقَ فى العمر الكثير لنقضيه فى المناكدة والزعل والتوتر».. وأخرى قالت له «دى أصلا مؤسسة فاشلة أنا قلت لكم من سنين» ضحكوا منها هى المتمردة صاحبة الآراء الغريبة فى مجتمعات لا تقبل بالأفراد بل بالمؤسسات والتبعية لها حتى لو كانت مؤسسة الزوجية والعائلة.
***
أسكتها هو مرددا «مش وقت شطحاتك» وطالبهم بحكم الصداقة الطويلة والمحبة ولحظات الصفاء أن ينصحوه.. كان شاردا، متعبا، بل حزينا جدا. حاولوا هم التخفيف عنه وتقديم النصح مدركين أنه قد اتخذ قراره وكعادته يفضل الطرق الأسهل وهى أن «يبقى الحال على ما هو عليه»؛ لأنه غير قادر على أن يسحب معطفه، يخرج ويوصد الباب خلفه! هو الذى عاش حياته مناضلا شرسا من أجل الحقوق والحريات والعدالة ونصرة المظلومين والمظلومات، هو الذى انتقد هيمنة المؤسسات كيفما كانت تلك المؤسسات، هو الذى عرف السجون والمعتقلات ومراكز التوقيف ليس فى وطنه الأخضر الجميل الجالس فى حضن المتوسط بل وأيضا فى مدن الوطن الأكبر. هو المناضل المخضرم يعود لمؤسسته راضيا أو مجبرا!