اشتد المرض على امرأة من بنى إسرائيل يوم السبت فلم تجد بدا من الذهاب للمسيح عيسى ليعالجها حتى برأت من مرضها.. وبدلا من أن يفرح الكهنة بشفائها إذا بهم يغضبون غضبا شديدا، وعلى رأسهم رئيس الكهنة، الذى واجه المسيح بقوله : «كيف تبرئ يوم السبت»؟ وهو اليوم المقدس.. فإذا بالمسيح يلقنه والأجيال كلها درسا قاسيا فى فقه المقاصد والاهتمام بالجوهر قبل المظهر.. والإنسان قبل الرسوم والأشكال قائلا : «يا مرائى أفئن سقط حمارك فى بئر يوم السبت أنقذته وأبرأته وحين يمرض إنسان تتركه فى علته إلى يوم الأحد».
ثم هتف المسيح فى الكون مناديا :«إنما جعل السبت من أجل الإنسان ولم يجعل الإنسان من أجل السبت».. وكأنه يقول: صلاح الإنسان وفلاحه وخيره ورشده هو مقصد الشريعة.. وكأن الإنسان هو محور الكون.
وهذا محمد يرفض أن يهدم الكعبة ويبنيها على قواعد إبراهيم الصحيحة خوفا من تفرق المسلمين وتمزقهم وحرصا على وحدتهم قائلا لعائشة ومعلما للدنيا كلها «يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة ثم بنيتها على قواعد إبراهيم».. فوحدة المسلمين وتآزرهم جعلته يعدل من الأفضل للجائز كما قال البخارى.. ويقدم وحدة أمته على ما سواها.
إن بعض قصيرى النظر من الدعاة ينظرون لنصوص الشريعة على أنها جامدة كالحجارة.. صماء لا حياة فيها.. رغم أن نصوص الشريعة من قرآن وسنة تنبض كلها بالحياة.. وتحمل من الحيوية والمرونة مالا يعلمه إلا أولو الألباب.
فهذا رسول الله أراد أن يرسل رسالة لهرقل فقالوا له «إن الروم لا تقرأ إلا كتابا مختوما» فاتخذ خاتما مثلهم.. ولم يستنكف أن يقلدهم فى أمر فيه صلاح له ولأمته.. وهو الذى لم يستنكف أن يستعير من الفرس عبدة النار فكرة الخندق التى كانت من أسباب نصرته فى غزوة الأحزاب.
ولكن بعض الدعاة فى كل عصر يضيقون ما وسعه الله على عباده.. ويشددون ويعسرون على أنفسهم وجماعتهم وأمتهم ما يسره الله عليهم.
لقد جاء المسيح ليعيد بنى إسرائيل إلى البساطة واليسر والسلاسة ولكن العقل المادى لديهم جعلهم يضيقون على أنفسهم ولا يحبون اتباع اليسر الذى جاء به.. حتى إن اليهود تركوا أورشليم القدس تسقط فى أيدى الغزاة السلوقيين الذين هجموا على القدس يوم السبت فآثر اليهود سقوطها على أن يقاتلوا عدوهم ويدافعوا عن وطنهم وأنفسهم فى يوم السبت فى جمود معيب يدل على جمود عقلى معيب.
إن محمدا والمسيح وكل الرسل وأتباعهم جاءوا لتعليم البشرية أن الشرائع جاءت لخدمة الإنسان وإسعاده وخيره.. حتى هتف ابن القيم الجوزية معرفا الشريعة الإسلامية للناس «هى عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها.. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور.. وعن الرحمة إلى ضدها.. وعن المصلحة إلى المفسدة.. وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل».
فعندما يموت الدين الحق فى حياة الناس تحيا الطقوس والأشكال المجردة من كل معنى.. وتغيب حيوية النصوص الشرعية تحت وطأة الشعارات التى تدغدغ العواطف ولا تجلب إلا الخسائر والكوارث.. ويتوارى الإيمان لتطغى عليه العاطفة الحماسية الدينية الهشة التى لا تخالط القلوب ولا تجاوز الحناجر، والتى يتحول الدين باسمها إلى رسوم وأشكال جامدة لا روح فيها ولا حياة.. ويتوارى الاهتمام بالجوهر على حساب المظهر والإيمان وصلاح القلوب من أجل مظاهر ولافتات خادعة.. ويظهر الذين يدَّعون تجديد الدين وهم يريدون تبديده.. وتتوارى المصالح العليا للأمة تحت لافتات الحزبية والقبلية.. ويظهر الغلو والتطرف والتكفير وإقصاء الآخر.. ولا ينظر أحد إلى الحكمة والمقصد من كل الأحكام.. وأن الحكم يدور مع علته، وجودا وعدما.
لقد أحيا محمد والمسيح فقه المقاصد فى حياة الناس ولكننا قتلنا المقاصد وفقهها.