جاءت امرأة العزيز بعد أن كبرت وضاع عزها ومجدها تعتذر إلى يوسف عليه السلام «عزيز مصر» عما لحقه طوال سنوات السجن، فقال لها وقد كساه الخشوع: «ورب آبائى إبراهيم وإسحق ويعقوب لقد كنت أستغفر لك وأنا فى غياهب السجن».
لقد أبت نفسه الكريمة أن تدعو على من ألقته فى السجن دون جريرة، وكان يمكن أن يدعو عليها فيستجاب له، ولكنه أدرك أن مهمة الدعاة والهداة الدعاء للناس لا عليهم.
لم تحركه الضغائن فيدعو على من آذاه «اللهم رمل نساءهم ويتم أطفالهم». هو جاء للحياة والإحياء، لا للموت والإفناء، هو جاء للعمران لا الخراب، لسوق الأنفس إلى الله برفق وتلطف فإن أبت الهداية اليوم فستقبلها غدا، فالإيمان غالب، وأفضل ما تقدمه لمن عصى الله فيك أن تطيع الله فيه.
أحبته بجنون وعشقته بلا حدود، ظنته كغيره يمكن أن يخون ربه وخالقه أو سيده ومليكه، ولكن هيهات، أرته جمالها وسلطانها، أغرته بالجمال وهددته بالسطوة والسلطان دون جدوى، همت به ولكنه أعرض عنها.
قيل أنه رأى وقتها جبريل يكاد أن يمسح اسمه من سجل الأنبياء فانصرف عنها، وقيل إنه رأى أباه يعقوب النبى يحذره، فكل من يقع فى الزنا المحرم بدرجاته المختلفة سيشطب من ديوان الولاية والصلاح، وكل من يعتدى على الأعراض سيلقى أثاما «وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا».
تضرر يوسف عليه السلام من حب الآخرين له، جماله وخلاله وأخلاقه وسماحته تجعل الآخرين يحبونه، ولكن الحب يسبب له ضررا بالغا دون ذنب أو جريرة.
أحبته زليخا بجنون فأودى به إلى السجن بضع سنوات، وأحبته عمته فأدى إلى استرقاقه لديها لأنها أرادت ألا يعود إلى والده، وأحبه أبوه فحقد عليه أشقاؤه حتى هموا بقتله.
أرادوا قتله من أجل الحب فقط، فكيف إذا أعطاه يعقوب سلطانا أو جاها، يا إلهى: حتى أولاد الأنبياء يمكن أن تصيبهم الأحقاد، حتى على المعنويات، فماذا عن الذين يتشاحنون على السلطة والمناصب والأموال.
اقترح أكثرهم قتله فلما رأى شقيقهم الأكبر«يهوذا» إصرارهم لم يستطع رفض فكرتهم لئلا يقتلوا يوسف دون علمه، أخذ بسنة التدرج فى حمل الناس على الخير أو صرفهم عن الشر، أدرك أنه لن يقتلع شرهم وشحهم دفعة واحدة، اقترح عليهم شيئا آخر، قالوا هم: «اقْتُلُوا يُوسُفَ» فقال لهم «أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ».
الذى يريد خلو وجه أبيه يفعل ذلك، فما بالنا بمن يريد أن يخلو بالمال والمناصب، لا تتعجبوا فقد قصف الحجاج الكعبة من أجل السلطة، وقتل المأمون الأمين من أجلها، وقتل صدام أزواج بناته.
وهكذا، ألقوه فى الجب وهو صغير، لكن قلبه كان كبيرا بالتسامح والعفو، كان يناديهم من الجب «حفظكم الله يا إخوتى وإن ضيعتمونى»، قلبه الكبير لا يطاوعه أن يشتمهم أو يدعو عليهم أو حتى يتغير عليهم، هكذا الأنبياء الذين يتطاول سفهاء اليوم عليهم دون أن يقدروهم قدرهم «وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ».
هذا القلب الكبير المملوء بالتسامح والعفو والرحمة وحب الخير كان السبب الأساسى فى نصرة يوسف النبى على كل من آذاه، فإخوته الذين مدوا إليه أيدى الأذى وألقوه فى الجب وباعوه بثمن بخس، اضطرتهم الأقدار أن يمدوا إليهم أيديهم بالحاجة والسؤال «قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا».
لم يجرح مشاعرهم أو يعيرهم أو يشتمهم أو يسجنهم، أو يذكرهم بيوم الجب «وَقَدْ أَحْسَنَ بِى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ»إنه الأدب النبوى الذى يحتاج الجميع لتعلمه.
أما زليخا التى قالت يوما لزوجها «مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»، فقد دار الزمان دورته وأجرى الله الحق على لسانها لتعترف بمكيدتها وذنبها» الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ».
آه يا زليخا.. والله ليس لك مثيل فى زماننا فلم نر أحدا من أهل الحظوة أو المال أو النفوذ يعترف يوما بأنه أخطأ فى أى شىء مهما كانت آثامه.
أما الذين وضعوه فى السجون هم من طلبوا خروجه منه ليكون أمينا على خزائن مصر «وعزيزا عليها» وبها وفيها.
فـسلام على يوسف «وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ».