قلبه بيت كبير تتوسطه مكتبة على طول الحائط. هو بيت بوابته منخفضة وصغيرة يطل على الشارع فيدخل إليها عابر سبيل أو صديق قديم ويستقبلهما صاحب البيت والقلب المفتوحين بحفاوة تقفز من عينيه قبل فمه. من يقتطع من الوقت دقائق أو ساعات معه يأخذ مخزون سنوات من الثقافة والدفء فيخرج شخص أغنى باللقاء. للدكتور حسان عباس الذى تركنا قبل أيام قلب كالبيت المضياف، قلب ظل مفتوحا وسط عالم يتهاوى فاحتوى هو كل من احتمى داخله. قلب الدكتور حسان ما توقف قط عن استقبال الأصدقاء القدامى والجدد، خصوصا الأجيال الشبابية التى رحب بها وكأنها من أصدقائه القدامى حتى أصبحوا كذلك.
***
يأتى خبر الرحيل مؤلما فى غياب القدرة على الوداع. يرحل صديق الكثيرين دون وداع يليق به، فيترك وراءه تعازى على حائط أزرق والكثير من مقالات الرثاء التى تخفف بعض الشىء من شعور من أحبوه بأنهم وحيدون فى حزنهم. يخلق الرحيل فى داخلى شعورا بالسقوط الحر، وكأن مصعدا هبط فجأة من رقبتى إلى قدمى فى داخلى، أتخيل فراغا أحدثته عربة المصعد حين سقطت فشقت طريقا اخترقنى بشكل عامودى وقفت على حافته أنظر فى الفراغ.
***
يملأ كل منا فراغ الرحيل على طريقته، وقد ابتكر السوريون فى السنوات الأخيرة أساليب مختلفة للتغلب على حزنهم فى مواجهة الرحيل. الرحيل عن بيوتهم، عن مدنهم، عن البلد بأسرها وطبعا رحيل من يحبون إلى ما وراء السحاب دون عودة. أفكر أحيانا أن بعض من مات من الأصدقاء ربما كان سيموت أصلا دون أن يكون للوضع السورى المعقد علاقة برحيلهم، لكن مأساة القصة السورية وتغريبتها تعطى لكل رحيل بعدا يكاد أن يكون ملحميا، فيؤكد أن للرحيل السورى طبقات من الحزن والفقدان والبعد والغربة.
***
فى السنوات الأخيرة، فتح الدكتور حسان عباس قلبه خارج سوريا بعد أن أجبر على الرحيل. حيث استقر فى بيروت حاول أن يعيد خلق ما آمن به طوال سنوات بحثه وكتابته: أن يعرف مفهوم المواطنة بشكل يؤكد على دور الأفراد فى بناء مجتمع غنى متنوع ثقافته غزيرة وإنتاجه العلمى والبحثى لا يتوقف. كان للدكتور حسان قدرة عجيبة على مساعدة من يتحدث معه على طرح أسئلة قد لا تكون لها إجابات محددة، فقد ركز على قدرة العقول على الاستمرار بالسؤال والبحث والتشكيك بالمسلمات، ركز على حث من حوله من اليافعين والشباب على التفكير بدورهم كأفراد ضمن مجموعات تشكل كلها معا بلدا بنى حول مفهوم المواطنة. انشغل كثيرا بدور الثقافة والتعبير الثقافى وحرية التعبير واختيار أدوات التعبير فى بناء مجتمع صحى وحيوى ينتج موادا فكرية متجددة طوال الوقت.
***
قلب حسان عباس كان بيت المواطن السورى. ذلك المكان الدافئ والغنى، حيث يشعر كل زائر أنه مهما، كان كل من يزور حسان شخصا مهما فعلا فى عيون حسان. بحسه المرهف وعقله الراجح وحساسيته العالية، كانت كلمات حسان وعينيه تحتضن من أمامه أو تلفظه، كله بأناقة ودون أى ابتذال. قلة هم من اختلفوا مع حسان، أو هكذا أعتقد، وقلة هم من يستطيعون الاختلاف برقى كما كان يختلف حسان مع من فرقتهم المواقف المبدئية.
***
أظن أن لبعض الأشخاص قدرة نادرة على فرض الاحترام والرقى فى التعامل مستخدمين هم أنفسهم الاحترام والرقى. فى عالم الضوضاء الفعلى والافتراضى الذى بات يحيط بى، سوف أتذكر شخصا لم أسمعه يدخل فى نقاش محتدم ولم أر سخطه قط رغم انخراطه فى نقاشات طوال الوقت. لكنى رأيت حزنه فى عينيه وشعرت بإحباطه رغم استمراره بالمحاولة، محاولة التمسك بالغد وبشمسها التى كان مؤمنا أنها ستعود وتظهر. فى نظرته كان دوما تأمل، فى وجهه مزيج من الإنصات والسؤال دون أن يتكلم، فى طرحه كلمات انسيابية كأنه نسجها بدل أن يحكيها، وفى حزنه الكثير من خيبة الأمل التى لطالما حاول أن يخفيها.
***
فتح الدكتور حسان عباس قلبه فجعله بيتا للثقافة، ثقافة المواطنة والعمل الجدى. ها هو يرحل ويبقى الكثير من الأصدقاء والأحباء والتلاميذ يحاولون أن يستوعبوا فراغا تركه حسان فى القصة السورية، فراغا كانت تملؤه أحلام حسان بوطن يضم الجميع على اختلافاتهم وفق منظومة محكمة التخطيط مبنية بحكمة حول دور وواجبات كل فرد، فكل شخص مهم بنظر حسان.
***
قلب الدكتور حسان عباس كان بيتا لثقافة سوف يبقيها حية آلاف ممن تأثروا بعقل وكلام الأستاذ الذى تتلمذ على يديه كم هائل من محبى العلم واللغة والأدب. وداعا دكتور حسان، صاحب قلب كان بيتا للثقافة.