شوق... من على رأس الجبل - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 9:59 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شوق... من على رأس الجبل

نشر فى : الأربعاء 10 أبريل 2019 - 10:40 م | آخر تحديث : الخميس 11 أبريل 2019 - 11:06 ص

يقال إنه من الصعب أن يشتاق أحدنا إلى شىء لم يعرفه، بمعنى أن الفراق والحنين إلى أشخاص وأماكن لا ينتج سوى عن قلة لقائنا بهم، وعن رغبتنا بأن نتواجد فيهم وفى رفقتهم. أكتب ذلك وأنا أفكر فى وجه ابنتى حين أفتح عينى فى الصباح فأكتشف أنها اندست قربى فى السرير ليلا وألصقت رأسها بكتفى أو عنقى. هى من القرب منى بشكل يجعلنى أرى بكثير من الوضوح دقة ملامحها وتأثر وجهها بحركة تنفسها.

***
أنا مستيقظة لكنى لا أتحرك، أتنفس بالكاد منعا لأى حركة قد تغير من تعبير ابنتى النائمة. يردد من حولى أنها تشبهنى إلى حد بعيد، حتى إننى أنا نفسى أضطرب أحيانا حين أنظر إليها وألاحظ الشبه. ابتعدت عن أسرتى فى الأسابيع الأخيرة لأسباب مهنية جعلتنى أقضى معظم الوقت فى السفر. لم أقلق على عائلتى التى بقيت حيث بيتنا وأصدقائى، أنا مطمئنة على نظام يومى وشحنة الحب والرعاية التى يأخذها أولادى ممن حولهم. أما عن نفسى، فإن حاجتى للتركيز على عملى جعلتنى لا أتوقف كثيرا أثناء النهار للتفكير فى بيتى وأسرتى، حتى إننى تساءلت أحيانا إن كنت أما جيدة لأطفالى ما دمت لا أشغل نفسى بهم أثناء ساعات العمل ووقت التنقل.

***
لكن ما إن أصل إلى آخر اليوم وأفرد جسدى وأفكارى على السرير، حتى أشعر بقلبى ينفرد هو الآخر على مساحة كبيرة وخالية، أرض جرداء لا ضحكات الأطفال فيها ولا تزينها نظرة زوجى حين يعرف أننى أخطط لموضوع أحاول أن أقنعه بى فيرمقنى بطريقته التى تقول «أنا أعرف أنك تحاولين إرجاح الكفة إلى قرارك وسوف أوافق». أنا أشتاق إليهم، الآن حين يسكن العالم من حولى ويغطى الليل حياتى بهدوء لست معتادة عليه فأشعر وكأن الزمن توقف بعد أن رنت فى أذنى ضحكة ولدى الكبيرين.

***
هناك كلمات كثيرا ما سمعتها من أمى ومن أمهات أخريات، تهددنا، أى أطفالهن، بأنهن، أى أمهاتنا، سوف يلجأن إلى مكان بعيد لن نستطيع اللحاق بهن إليه. فوالدتى مثلا، وبحكم حبها للطبيعة، كانت تقول إنها سوف تذهب إلى أعلى الجبل لتجلس هناك. كنت أتخيلها جالسة فى مكان بعيد وحدها وأتساءل عما يمكن أن تفعله هناك، وكم من الوقت سوف تستغرقه قبل أن تعود إلينا بسبب الضجر. ثم أكتشفت أن والدة صديقتى ليال كانت تهدد هى الأخرى أبناءها بالهرب إلى المكان ذاته، أى أعلى الجبل، فصرت أتخيل أمى وأم ليال جالستين معا فى مكان منعزل عن العالم، تتناقشان حول أولادهما وكيفية التعامل معنا.

***
اليوم، ومع سفرى الدائم وبعدى عن عائلتى وبيتى لفترات طويلة أحيانا، أعيد التفكير برغبة أمى وأمهات كثيرات بالهروب من حياتهن اليومية. أعى أنه قد يكون هناك فعلا داخل كل منهن رغبة ببعض الخصوصية، وبوقت يركزن فيه على أنفسهن، سواء بهدف الحصول على بعض السكينة بعيدا عن الطلبات المستمرة، أو بهدف تحقيق ذاتهن مهنيا أو غير ذلك بمنأى عن شخصهن المعرف عليه بـ«أم» فلان أو «زوجة» فلان.

***
لكن بعد أن تهدأ العاصفة من حولى وحين أجلس فى آخر اليوم وحدى، ها هو وجه الصغيرة بملامحه الدقيقة يظهر لى على المخدة. هنا حيث أنا وحيدة وبعيدة عنهم، أشتاق إلى تعريفى على أننى زوجة فلان وأم فلانين وفلانة صغيرة. أريد تنفسها الهادئ قريبا من وجهى، لن أعترض على مداهمتها السرير الكبير ولن أتأفف من حركتها المستمرة أثناء النوم والتى أفقد بسببها بعضا من نومى. سألتنى صديقة أخيرا إن كنت أشتاق إلى ولد من أولادى أكثر من غيره فتفاجأت بإجابتى لها فعلا عن أحدهم أكثر من غيره. ها أنا إذا من جديد أكسر قالبا مقدسا يفيد بأننا كأمهات علينا أن نحب ونعامل أطفالنا جميعا بالتساوى. أم أننى قادرة على تحمل اعترافى بأننى أقلق على ابنى الأوسط أكثر من قلقى على الأكبر والصغرى بسبب حساسيته وطيبته، وبسبب تأثره بما حوله إذ لم يتقن بعد استخدام أدوات للوقاية من المنغصات؟

***
بعيدا عنهم جميعا، أحتاج إلى إعادة التعريف، تماما كما يحتاج الهاتف الذكى أو جهاز الكمبيوتر أن يعاد تعريف خصائصه تماشيا مع تغيير شركة الاتصالات التى يحصل منها على الخط والانترنت. أدوس إذا على أزرار إعادة التشغيل فى قلبى حتى يتعرف على مكانى هنا، بعيدا عن المنزل ولو بشكل مؤقت. هنا لا أجد نظرة ابنتى المتفاجئة ولا غمزة يلقيها ابنى الأكبر حين يمر قربى. هنا لا أشاكس زوجى مازحة ولا يرمى ابنى الأوسط بنفسه قربى بحثا عن انتباه خاص منى له.

***
ماذا لو لم أكن قد تزوجت ولم أرزق بهذا الثلاثى؟ هل كنت سأشتاق إليهم، أو إلى أشخاص يشبهونهم؟ على الأغلب لا، فكيف أشتاق لما لا أعرفه؟ أظن إذا أنه من نعم الله على البشر أننا لا نستطيع أن نقدر بشكل دقيق ما قد يفوتنا مما لا نملكه. كأن نمتلك مثلا يوما فى وسط الأسبوع أقرر أن أخبز فيه كعكة عيد ميلاد زوجى، ويقف أطفالى حولى يلحسون باقى الشوكولاتة التى أتركها متعمدة فى القدر حتى يأكلوها. هذا من أكثر المواقف التى أشتاق إليها وأنا بعيدة.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات