قهوة أمى - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 10:20 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قهوة أمى

نشر فى : الأربعاء 10 مايو 2017 - 9:20 م | آخر تحديث : الأربعاء 10 مايو 2017 - 9:20 م
أفتح عينى كل يوم فى الصباح على صوت أحد أولادى الذى يكون قد استيقظ قبل باقى سكان البيت. أذهب مباشرة إلى المطبخ لعمل القهوة، حتى إننى أتخيل أحيانا أن قفزة واحدة هى التى تأخذنى من غرفة النوم إلى المطبخ، إذ إن سرعة حصولى على القهوة، بما فى ذلك استنشاق رائحتها أثناء عملى لها، تكاد تحدد طبيعة يومى. أحمل فنجانى الكبير، أو الدلو كما تسميه والدتى بسبب حجمه، وأبدأ يومى. أحيانا أبدأ فورا بالاستعداد ليوم العمل ويوم مدرسة أطفالى، فينتقل معى الفنجان حيث أتحرك فى المنزل، وأرتشف منه بينما أتابع الأولاد وأضع بعض الكحل فى عينى قبل أن أترك المنزل، فتكون حركتى الأخيرة هى أن أترك الفنجان خاليا مما أعتبره مادتى الصباحية السحرية، إذ أرتشف آخر ما فيه قبل أن أخطو فوق عتبة باب البيت. أحيانا أخرى، وخاصة فى يوم الإجازة، أجلس فى ركنى المفضل لمدة نصف الفنجان، أستجمع أفكارى وأشعر برائحة القهوة وطعمها يخترقان زحمة الأصوات والألوان فى عقلى فيشقان طريقا فى رأسى، أشعر أن أفكارى تصطف على يمينه ويساره وكأن محتوى عقلى يتنظم فجأة.
***
خلال عملية تنظيم عقلى تلك، أكون قد بدأت حديثا مع صديقة حول موضوع كنا قد ناقشناه فى السابق. تنضم إلينا صديقة أخرى فتُدلِى بدلوها، ونرد عليها كل منا على طريقتها. مع كل رشفة من الفنجان يدخل على حديثنا شخص له رأى فى موضوع النقاش، حتى إننى حين أصل إلى قاع الفنجان تكون قد أحاطتنى مجموعة معقولة من الأصدقاء المختلفين، جميعهم منخرط، بكثير من الحيوية، فى حديث عن السياسة أو عن الحياة العائلية أو عن فيلم يحصد جوائز فى المهرجانات.
أترك مكانى دون أن ينتبه إلى غيابى أحد، وأقفز من جديد إلى المطبخ لأعيد ملء الفنجان، فالحديث له بقية، ولا أريده أن ينتهى قبل أن أكون قد اشتففت أخبار الناس المختلفة من خلال ردود أفعالهم.
من السهل، أو كذلك يبدو، فهم ما إذا كان أحدهم قد غير موقفه السياسى حتى من خلال حديث عن الفن. كما يمكننى أن أسمع عبارات جديدة، ذات طابع دينى، قد دخلت على الكلام الذى تستخدمه صديقة، كانت فى السابق تلجأ أكثر إلى مفردات فى لغات أجنبية أثناء تحدثها باللغة العربية.
هو حديث افتراضى مع مجموعة أصدقاء يعيشون حول العالم، وتجمعنى معهم سنوات مضت من الأحاديث الحقيقية حين كنا نجتمع على شرفة بيت أحدنا فى دمشق. هو حديث بين جماعة تتشارك الذكريات وبعض المواقف، فترى أنه من الجميل أن تشرب القهوة معا حتى من مدن مختلفة. لا أعرف أحيانا من منا كان سيبقى ضمن المجموعة لو لم يتطور الحديث الافتراضى والإمكانيات التكنولوجية بهذه السرعة، لو لم تعط لنا فرصة أن نشرب فناجين قهوة يفصلها آلاف الكيلومترات واختلاف المناطق الزمنية عن بعضها البعض.
***
عجيب هو شعور القرب الذى خلقته أدوات التواصل عموما، فقد خففت قطعا من الشعور بالعزلة والوحدة عمن يستخدمها، بل أعطت شعورا، قد يكون أحيانا غير دقيق، بالقرب من أفراد قد لا نكون قريبين منهم لو عاشرناهم فى الحقيقة. من على كنبتى فى القاهرة، أتلقى أخبارا من دمشق وباريس وبرلين ونيويورك ومن جنوب السودان. أقف لحظة لأدقق فى وجه صديقة لم أرها منذ سنوات وهى تظهر لى من وراء الشاشة. أنظر عن قرب وأقول إن تلك الصورة قد تكون لوالدتها وليست لها. لقد التقيت والدتها مرارا حين كنت أزورهم، وأكاد أجزم أن من ترد على من قارة أخرى هى والدة صديقة وليست الصديقة. لكنه صوت صديقتى الذى يستحضر معه مساءات شتوية نجلس فيها حول طاولة السفرة فى بيتنا أو بيتها، هو صوت يجلب معه رائحة القرفة التى تزين طبقا من السحلب تضعه والدتى أو والدتها أمامنا.
أنا أيضا كثيرا ما يقال لى إننى أشبه والدتى، وكثيرا ما يأتى هذا التشبيه من أشخاص لم يروا والدتى منذ كانت فى عمرى الآن. ينظرون إلى ويمدون يدهم أو وجنتهم لأقبلهم بشىء من التردد، فهم، كما أنا حين أرى وجه صديقتى أو والدتها، يرتبكون للحظات، هى لحظات كافية لتذكرهم بسنوات كثيرة مضت دون أن يروا شخصا يحبونه.
أبتسم للشاشة، أرشف قهوة من فنجانى وأنا أتخيل أن الحديث يدور بين والدتى ووالدة الصديقة. تتبادلان الأحلام، ترسمان مسارات احتمالية لحياتهما. تشربان القهوة بدورهما، وتضحكان على حركات الشاب الخجول الذى يلاحق إحداهما. يدخل الشاب الخجول فى المساحة التى أراها فى الشاشة. «كيفك تمارا؟ شو صايرة بتشبهى أمك»، يقول والد صديقتى. هنا يتوقف الزمن لحظات تجتمع فيها أربع صديقات، ابنتان ووالدتان كلهن فى العشرينيات من عمرهن. تصب إحداهن قهوة للباقيات، وتحكى عن الشاب وعن العائلة وعن آخر طبخة جربتها. أقلب فنجانى بعد أن أفرغ فى طبقه ما بقى من محتواه. أنظر فى الرسومات التى تتركها آثار البن، فتتراقص أمامى طرقات بيضاء تشق سواد باقى القهوة. «شو شايفة؟» تسأل الصديقة، فتجيب والدتى: «شايفة أنا وانتى قاعدين بمحل ما بعرفه بس معنا بناتنا، هن بعمرنا الحالى، كل واحدة ماسكة فنجان قهوة». تنظر الصديقة بتعجب وبعض المرح وتجيب: «أوف كتير شايفة بعيد لقدام».
هأنذا أجلس مع ابنتها كل منا فى بلد، نرتشف قهوة والدتينا ونتعجب كم تشبه كل منا أمها.

 

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات