فتحت الباب وذراعيها معا فكأنها تشرع قلبها للقادمين وليس فقط لمكتبها الملىء بتفاصيل حياة طويلة فى تلك السفارة العريقة... رددت «افتقدت حضن صديقاتى وأصدقائى».. ربما هى الوحيدة التى قدمت ذراعيها منذ الحظر للقادمين فيما يشير الآخرون إلى الابتعاد أو المصافحة عبر وضع اليد على الصدر كما يفعل كثير من المسلمين الرافضين لملامسة «جسد» المرأة حتى لو كان ذاك كفها فربما تثيرهم تلك اليد! وآخرون «اخترعوا» الملامسة بالكوع أو الرجلين.. ابتكارات كثيرة لتفادى ما كان من دفء فى اللقاء أو انعدامه أو برودة شديدة متعمدة أحيانا.. فمن منا لم يكن يفكر بأننى عندما ألتقى أولئك المنافقين أن أبتعد عن تقبيلهم أو حتى أصافحهم بالملامسة وكأن المرء لا يريد أن يتلوث بكم الكذب الذى هو جزء منه..
***
لم يتوقف حديثها عن الحضن قبل أن تبدأ فى السؤال عن أحوالنا، قالت كم اشتقت لذاك الحضن، أكثر ما يؤلم فى هذا الحظر هو أن المرء لا يستطيع أن ينقل دفء قلبه إلى الآخرين الذين مكانهم هناك.. هى أديبة وربما لذلك استطاعت أن تسرد شعرا فى فن الحضن الذى ما هو إلا همسة للقلب. كلما عرج الحديث عن حياة كل منا فى «زمن الكورونا» عادت هى إلى الفراغ الذى حدث فى حياة البشر ورفضها للتواصل عبر جهاز لا يحس ولم يصنع لينقل الهمسة والابتسامة والفرحة بلقاء الأحبة..
***
العناق أو الحضن لا يعنى الفرح بل هو ربما ملامسة الجسد للجسد تعبيرا عن حالة من الفرح بلقاء أو حتى عن حزن الوداع حتى بقينا نكرر عند وفاة أو فراق أحبتنا «رحلوا دون أن نحضنهم».. وكثيرا ما نتعانق دون أن نتلامس، بعضنا بالعيون وآخرون بلمسة اليد التى تشبه المصافحة أو هى نوع من أنواعها فليست كل مصافحة مصافحة! وكثيرا ما يتعانق الأحبة والرفاق فى جلسة حميمة تحمل ربما ذكريات أو مشاريع قادمة.. قالت تلك الصديقة والابتسامة تزيد من تجاعيد الزمن على وجهها، عندما ذهبت فى رحلة العمل الأولى لى بعد تخرجى بسنة، التقيته فى الحافلة التى نقلت المشاركين فى ذاك المؤتمر وكان يحرص على الجلوس بقربى حتى تخيلت أن هذا المكان له هو، وكان يحضننى دوما دون أن نتلامس ربما بذاك الدفء الذى أحسسته مع دقات قلبه المتسارعة، وعينيه التى لم تكن قادرة على الابتعاد عن متابعتى..
***
هى الأخرى وصفت حالة من الحضن ربما مرت بها عديد من نساء أوطاننا وخبأنها فى مكان ما بعيد عن أعين المتلصصين والمراقبين لهمسة النساء وكلمات أعينهن الفاضحة..
***
مع طول فترة الحظر كثر الحديث عن افتقاد الكثير من الحريات، حرية الحركة، حرية العمل من المكتب، حرية الجلسات الطويلة فى المقاهى مع مرافقة «الشيشة» والهواتف الذكية... كانت جلسات بعيدة ولم تقرب أحدا... وبعد طول هذه الفترة من الابتعاد و«البقاء فى البيت» من الكثيرين الذين كتبوا وسجلوا على وسائل التواصل الاجتماعى وفى اللقاءات الصحفية والتلفزيونية عن افتقادهم لحميمية اللحظة التى كانت غير افتراضية بل واقعية جدا تكاد تكون أكثر الحقائق فى حياتنا جميعا، ألا وهى المحبة التى تعبر عن نفسها فى أشكال متنوعة لا توضع فى قوالب مصنعة..
***
هى كانت أول من التقيناه يعبر عن ذاك الشعور العميق بفقدان التعبير عن الحب والشوق لأحبة لم ترهم منذ أن أغلق الكل باب بيته وأحكم عليه بالمفتاح خوفا أن يدخل الفيروس من خرم الباب! الحضن الذى هو ليس فقط تعبيرا عن المحبة والاشتياق بل فيه كثير من التسليم، الروح للروح وأيضا أن يسلم المرء نفسه للآخر وهذه أعلى سمات الثقة وأكثرها بقاء واستمرارية.. وهو الوسادة الناعمة التى يسترخى عندها الشخص من تعب الأيام والكراهية.. حتى الطيور عرفته حيث تحضن صغارها حتى يكبروا..
***
هى، تلك الصديقة المخضرمة التى عاصرت عددا من المراحل المتغيرة فى بلادها، هى لا تستمع إلا لصوت قلبها وتنشر دفء حضنها كلما نلتقى.. تمد يديها فتعصرك بين ذراعى قلبها وتردد «يا حبيبتى يا حبيبتى اشتقنا»..