• قبض على الآلاف عام 1981م عقب اغتيال الرئيس السادات.. وقدم البعض إلى المحاكمات، وأعدم قتلة السادات وأحيل آخرون إلى المحاكمات، وهدأت الأحوال فى السجون تماما، وكان سجن القلعة هادئا وهو المتخصص وقتها فى التحقيقات والذى أصبح متحفا الآن، وقد مكثت فيه عدة أشهر وكانت غرفتى رقم (3) قريبة من غرفة التحقيقات رقم (1) وفى إحدى الليالى سمعت أصوات صراخ وتعذيب شديدة طوال ليلتين كاملتين، وصوت يهدد ويتوعد، وآخر يردد مرارا «تضربنى وأنا ابن النبى».
• وبعد يومين جاءنى ضابط التحقيقات وكنا قد تعارفنا من قبل منذ أكثر من عام فقال لى: أنقذ حياة هذا المجنون من يدى، كل شىء انتهى منذ سنة وعرفنا كل شىء وهذا يريد أن ينكر حتى مجرد صلته بالجماعة الإسلامية ومعرفته بك، وكلما ضربته يقول:
«تضربنى وأنا ابن النبى» ولا ينطق بكلمة سواها، والله لن أتركه حتى يعترف أو يموت، واعترافه لن يفيدنى شيئا، وأنا صعيدى عنيد مثله تماما.
علمت يومها أن هذا الشاب مهندس صعيدى من الأشراف ينتمى للجماعة الإسلامية وتلميذى وصديقى وكان مسئولها فى كلية الهندسة قبل تخرجه وعز عليه أن يضرب وهو من الأشراف وقد قبض عليه بعد فترة طويلة من انتهاء التحقيقات.
كان هذا الضابط بلدياتى وكان عنيفا ومعتدا بنفسه ويكرر دائما «أى واحد لا يحترم عقلى فى التحقيقات سأضربه حتى الموت».. هدأت من روعه وقلت له: إن اعترف هل ستفرج عنه؟ قال: نعم وأقسم بالله أنه سيذهب إلى بيته فورا، ومعلوماته معروفة ولكن لابد أن أكتبها على لسانه وأضعه فى التصنيف الخاص به.
كانت هذه بداية معرفتى لما يسمى «التصنيف الأمنى».. فهذا إخوانى أو جماعة إسلامية أو جهاد أو توقف أو تكفير.. وهذا قيادى أو داعية أو فرد أو متعاطف وهكذا.
ومصيبة هذا التصنيف أنه يظل مع الإنسان طوال حياته ويلازمه كظله ولا ينفك عنه حتى ولو غير فكره وعقله مرات، فهو محفوظ فى ديسكات الكمبيوتر ولا يتغير.
وفى يوم من الأيام ظل ضابط آخر يضرب متهما فى سجن القلعة بقسوة ليجيب عن سؤال واحد: كنيتك إيه؟ ويبدو أن هذا المتهم لم يكن يعرف موضوع الكنية، واستمر يضرب حتى الصباح دون إجابة عن السؤال المتكرر «كنيتك إيه؟» وأدركت وقتها أن هناك كتالوجا يملؤه الضابط لكل متهم سياسى أو إسلامى فيه الكنية، الاسم الحركى، التصنيف أشياء أخرى كثيرة.
وهذا التصنيف يمنعك ويمنع أولادك وأحفادك والأقربين منك إلى يوم الدين من تولى أية مناصب سياسية أو عسكرية أو شرطية أو قضائية.. كما يمنع هؤلاء أن يكون منهم معيدا أو أستاذا جامعيا فى الجامعة.. فضلا عن وظائف أخرى أضيفت حديثا.
تذكرت صديقى صاحب العبارة الشهيرة «تضربنى وأنا ابن النبى» حينما قص على صديقى د. حسن عبدالغنى شنن الفصل الأخير من قصته مع التصنيف الأمنى.. فقد حصل على الدكتوراه فى الشريعة الإسلامية من حقوق القاهرة بامتياز مع مرتبة الشرف مع التوجيه بطبع الرسالة وتبادلها مع الجامعات الأخرى وذلك بعد رحلة كفاح علمى شاق.
لم يجد د. شنن عملا فكان يدرس «السكاشن» فى حقوق حلوان، وأجر السكشن الواحد ومدته ساعتان أربعة جنيهات مصرية، ــ لا تذهل أخى ــ فأجره فى ساعتين أقل من ثمن نصف كيلو الأرز.. وأقل من أجر المواصلات من بيته إلى حلوان.
ولما ضاقت به سبل الرزق قدم أوراقه مع حملة الماجستير والدكتوراه فعين فى التأمينات والمعاشات.. وبعد تعيينه بأشهر أرسلت التأمينات تستطلع رأى الأمن فى تعيينه.. فكان خطاب الرفض الأمنى جاهزا.. لأنه كان فى شبابه حكم عليه بالسجن 15 عاما، سنة 1981م وهو الآن جاوز عمره 58 عاما.
كان وقتها شابا ينتمى لجماعة الجهاد وأتم فترة حكمه ثم اعتقل بعدها دون مبرر أو سند قانونى لمدة 11 سنة كاملة.. وخرج بعد 26 عاما فى السجن وكافح هذا الكفاح الكبير الذى توجه بالحصول على درع الكلية لتفوقه فى الدكتوراه، ولم يعد يعتنق أى فكرة للعنف أو الصدام أو الخروج على الدولة، ولم يبق له سوى عامين على المعاش، ووظيفته أقل من العادية، وليست فيها أسرار حربية أو استراتيجية ولا غيره، فهو كغيره من الموظفين العاديين، فلم يعين قائد فرقة أو مدير أمن أو قاضٍ حتى يستطلع رأى الأمن فى وظيفته.
وحتى لو استطلعوا رأيه هل شنن العشرينيات هو الخمسينيات أم هو شخص مختلف؟ ولكن التصنيف سيظل يلاحقك أبد الدهر، حتى لو ذهبت إلى المريخ أو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى سابع أرض فهو معك أينما كنت.
الكمبيوتر الأصم سيخرج لك تصنيفك حينما يتقدم ابنك أو حفيدك أو قريبك إلى سابع جد إلى أى وظيفة مهما كانت تافهة.
ترى ماذا تنتظر من مثل هذا الرجل، ألا يكفى أنه اعتقل 11 عاما دون سند قانونى، وهل هذه وظيفة تستحق كل هذه التعقيدات، إن مصر لن تتقدم إذا فكرنا بهذه الطريقة التى تنتمى للعصور الوسطى، وسلم لى على التصنيف.