الاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى فى ذكرى «خراب الهيكل» من قبل المستوطنين وجماعات التطرف الدينى الاسرائيلى، وكذلك الاجراءات المهينة والمستفزة التى اتخذتها السلطات الإسرائيلية ثم تراجعت عن بعضها ضمن تفاهمات لاحتواء التصعيد، والتى تبقى هشة ومؤقتة، تأتى كلها فى سياق سياسات اسرائيلية رسمية تهدف إلى تهويد القدس وتفريغها من أهلها الفلسطينيين، ومن تلك السياسات تجريد المقدسيين من حقهم فى الاقامة فى مدينتهم وهو ما يعتبر بمثابة جريمة حرب كما تذكر هيومن رايتز ووتش، وكذلك إعادة رسم حدودها البلدية.
مخاطر هذه السياسة فيما لو استمرت دون رادع، ولا يوجد أى رادع فعلى فى الأفق، أنها تجعل السلام فى المستقبل حتى البعيد أمرا مستحيلا. السلام الذى هو اليوم أمر غير ممكن ومستبعد كليا نظرا لموازين القوى الحاكمة للنزاع وللوضع الفلسطينى القائم ولتغيّر الأولويات العربية.
جملة من الأسباب تدفع بهذا الاتجاه. أولها دون شك، الوضع السياسى والتنظيمى الفلسطينى الغارق فى صراعات الداخل وصراعات البيت الواحد والأسير لصراعات الخارج العربى والاقليمى. وصرنا اليوم قادرين على إسقاط نموذج اللبننة على الحالة الفلسطينية. فلا وجود فاعلا حاليا للطرف الفلسطينى القادر والمؤثر والحامل لرؤيا ولاستراتيجية لتغيير هذا الواقع القائم الذى يزداد بؤسا وتهميشا ذاتيا ومأساة يدفع ثمنها الشعب الفلسطينى.
***
ثانيا: الوضع العربى الغارق فى صراعات باردة وبالواسطة، عربية واقليمية ودولية تحكمها أولويات لا توجد على لائحتها القضية الفلسطينية، إنما يجرى تذكّر هذه الأخيرة بشكل مراسمى وموسمى فى الاجتماعات العربية على جميع المستويات وفى خطاب يتسم بالتحذير والمطالبة والمناشدة.
ثالثا: قيل الكثير عن استعداد أمريكى لإعادة إطلاق المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية هذا الصيف، منذ وصول ترامب إلى سدة الرئاسة. وقد مرّ الصيف ولم تظهر أى بوادر فى هذا الاتجاه. قيل إن المقاربة الامريكية ستقوم على وضع مبادرة السلام العربية رأسا على عقب، كأن نبدأ بالتطبيع الاقليمى العربى الإسرائيلى التدرجى ولو المحدود بغية خدمة الأهداف الاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة فى الطريق إلى السلام الفلسطينى الإسرائيلى، دون أن تلحظ «المبادرة الامريكية» الموعودة أى مرجعيات دولية معروفة وأى إطار زمنى ودون تحديد الهدف النهائى للمفاوضات. وبالطبع لم تقلع هذه المبادرة بعد مع اعتراف أكثر من مسئول أمريكى بصعوبة الأوضاع التى تحول أو تعرقل من إطلاق هذه المبادرة.
رابعا: الخوف اليوم، كل الخوف، فى زمن تصاعد الأيديولوجيات الدينية المتطرفة والمتشددة والاستئصالية التى تتغذى وتدعم شرعيتها من خلال التركيز على مخاطر خطاب الآخر المتشدد وشيطنته، الخوف من أن يخطف صدام الأصوليات المنتشر والذى يتغذى كما أشرنا على خطاب وسياسات الأصوليتين الدينية والمدنية الإسرائيلية من تشويه القضية الفلسطينية وتحويلها من قضية تحرير وطنى إلى مسألة صدام دينى فى مناخ الأصوليات الناشطة.
***
خامسا: تفاديا لمزيد من تفكك وتفتت القضية الفلسطينية سياسيا وتنظيميا والتداعيات السلبية الكبيرة لذلك سواء على المستوى الفلسطينى بشكل مباشر أو على المستوى العربى لاحقا، المطلوب إعطاء الأولوية القصوى لإعادة بناء التوافق الوطنى الفلسطينى. توافق يقوم على استراتيجية وطنية فلسطينية هادفة، وعلى بناء سياج سياسى عربى داعم وفاعل لهذه الاستراتيجية. قد يقول البعض إن هذه أحلام او أوهام. ولكن مع ازدياد التوتر وغياب أى أفق فعلى وواقعى لإنهاء الاحتلال وفى ظل المعطيات القائمة التى تدعم سياسة تكريس الاحتلال من خلال إجراء التحولات المطلوبة فى هذا الصدد على الأرض من طرف اسرائيل. وإذا لم يتم كسر الجمود عبر تحرك دبلوماسى وسياسى جدى للتسوية شرطه الرئيسى ما أشرنا إليه فلسطينيا وعربيا، فسنجد أنفسنا أمام احتمال كبير لاندلاع انتفاضة ثالثة. ولنتذكر أن الانتفاضة الثانية انطلقت من المسجد الاقصى بعد «زيارة» ارييل شارون حين ذاك. ولم تعد تجدى سياسة احتواء الحرائق ومحاولة منع تمددها. الانتفاضة إذا حصلت هذه المرة ستكون أيضا ضد المؤسسة السياسية والتنظيمية الفلسطينية الغارقة فى انقساماتها السياسية والشخصية والعقائدية الحادة، مما أدى إلى حدوث شبه فراغ مرجعى. فنحن نعيش نهاية حقبة من وعود وخيبات أمل متكررة وقد تأخذ الانتفاضة طابعا عنفيا وتجعل من الوضع الفلسطينى مفتوحا على جميع الاحتمالات والسيناريوهات، ما يهدد بإعادة خلط الاوراق وضخ مزيد من التوتر والراديكالية فى شرق أوسط متفجر.