من كاتماندو إلى القاهرة.. ما وراء منظومة المياه التاريخية فى المدينة - نبيل الهادي - بوابة الشروق
الإثنين 16 سبتمبر 2024 6:32 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من كاتماندو إلى القاهرة.. ما وراء منظومة المياه التاريخية فى المدينة

نشر فى : السبت 10 أغسطس 2024 - 7:15 م | آخر تحديث : السبت 10 أغسطس 2024 - 7:15 م


أن تتعلم عن أماكن ومجتمعات وحضارات لا تعرف عنها إلا القليل هى واحدة من الفوائد التى تجعلنى ممتنا لكونى أستاذا فى جامعة القاهرة، وبالأخص لأننى أقوم بالتدريس فى برنامج للماجستير تتعاون فيه جامعة القاهرة مع جامعة ألمانية وجامعة الإسكندرية، ويهتم هذا البرنامج بإعادة الحيوية للمناطق التاريخية فى المدن أساسا.
من خلال تدريسى فى هذا البرنامج منذ ما يقرب على العشر سنوات، حاولت أن أربط هذا الاهتمام بالتاريخ والمبانى بالقضايا الحيوية التى يواجهها عالمنا وخاصة قضايا التعامل مع الطبيعة، والتى دعمت وجود مثل هذه المناطق، كما أن هذه أحد المداخل لربط دراستنا وفهمنا للتاريخ بواقعنا الحاضر والتحديات التى نواجهها حاليا، وأيضا تلك المتوقعة فى المستقبل.
ينضم إلى هذا البرنامج طالبات وطلاب من بقاع شتى ويحضرون إلينا فى جامعة القاهرة للدراسة لعدة أشهر تمثل أحد الفصول الدراسية الرئيسية الثلاث قبل أن يقوموا بكتابة أطروحتهم للماجستير فى الفصل الرابع. أشرفت فى خلال تلك السنوات على رسائل لطلاب من الصين والهند وكندا ومصر طبعا. ما يسعدنى أيضا أن بعض هؤلاء الطلاب تأثروا بما قمت بتدريسه لهم عن الطبيعة والمنظومات الطبيعية وخاصة الماء سواء فى منطقة برج رشيد أو فى مدينة القصير أو فى ميت رهينة والتى من خلالها نضع الموارد الطبيعية فى قلب فهمنا للربط المستمر بين الماضى والحاضر والمستقبل.
• • •
فى هذا العام اقترح نيراج بابو- وهو مهندس معمارى من نيبال وأحد الطلاب فى البرنامج - أطروحة عن استعادة تدفق المياه فى المناطق التاريخية للمدينة الواقعة فى وادى كاتماندو، والتى واجهت تحديات كبيرة نتيجة التوسع العمرانى الكبير فى القرن العشرين وأوائل هذا القرن، حيث انخفض منسوب المياه الجوفية وواجهت المدينة مشكلات عديدة مع كمية وجودة المياه.
تتكون منظومة الماء التقليدية فى وادى كاتماندو من القنوات الطبيعية، وأيضا تلك التى بناها الحكام فى فترات مختلفة وتوصيلات المياه وصنابيرها. كانت القنوات الملكية تنقل المياه من البحيرات فى أعلى التلال المحيطة بالوادى وتنقلها للبرك المائية والتى تعمل أيضا على إعادة تغذية المياه الجوفية فى الوادى. كانت الصنابير الحجرية تسمى هيتى ومبنية بصورة منخفضة بحيث تسمح لها بالاستفادة من المياه الجوفية لتوفير المياه للناس. بدأ هذا فى القرن الرابع حتى القرن السابع بعد الميلاد، ثم تم تحسينها وتوسعتها بين القرنين الثالث عشر والثامن عشر.
فى القرن العشرين وبدايات هذا القرن أدى التوسع العمرانى والسعى للتحديث إلى إدخال نظام تغذية مركزى للمياه من خلال شبكة من الأنابيب كما حدث فى دول عديدة أخرى، وبالطبع لم يتم إدماج المنظومة القائمة فى تلك الشبكة فكانت النتيجة أن تدهورت بشدة المنظومة التقليدية المركبة لتوزيع المياه والتى شكلت أيضا أماكن للتجمع والالتقاء لعدد كبير من أفراد المجتمع. وهو ما أدى أيضا إلى تدهور وعدم تجدد خزان المياه الجوفية.
كما أدى التوسع العمرانى إلى اضطراب التوازن بين تدفق المياه والحياة الاجتماعية للسكان نتيجة الاستغلال الكبير للموارد المائية بصورة غير متجددة وأيضا استخدام المناطق المفتوحة الطبيعية. أدى هذا أيضا إلى التكالب على دق الآبار بصورة غير منظمة، وأيضا إزالة أجزاء من الغابات والتى تلعب دورا هاما فى تجدد دورة المياه محليا من خلال احتجاز جذورها للمياه فى الطبقة السطحية، كما أن النتح الناتج من تلك الأشجار- والمسمى الماء الأخضر- يسهم بصورة رئيسية فى تكون السحب، ومن ثم سقوط الأمطار وهو ما يعرف بالدورة المحلية للماء.
• • •
بالرغم من المجهودات العديدة فى السنوات الماضية لتجديد وترميم البنية الأساسية التقليدية للماء ومنها ترميم صنابير المياه الحجرية المعروفة بالهيتى، والمجهودات الإيجابية للمجتمعات المحلية، لكن يغيب عن تلك الجهود الرؤية الشاملة الإيكولوجية لمنظومة المياه والتى أيضا تربطها بالمجتمع وقيمه، ولهذا كانت دراسة نيراج هى محاولة لطرح مدخل متكامل لهذا التحدى الذى يعانى منه مجتمعه.
انتهى نيراج بابو فى أطروحته بتحديد أماكن لستة تدخلات تربط بين استعادة منظومة المياه، وإشراك المجتمع، واستعادة المنظومة الإيكولوجية، واقترح تصورا لتحويل بعض الأماكن الهامة فى هذا الإطار مثل حواف النهر، كما اقترح ترميم وتطوير بعض ساحات صنابير المياه الحجرية أو ما يعرف بالهيتى، وتحويل مناطق عسكرية غير مستخدمة إلى مناطق عامة يتم إعادة برك المياه إلى مركزها لتكون مكانا للتجمع والاحتفال.
كما اقترح تطوير وإعادة تأهيل المناطق الطبيعية المتدهورة على حافة الغابة وأيضا استعادة القنوات التى تربطها ببرك المياه التى اقترحها. لم يأخذ نيراج بابو بملاحظاتى وملاحظات زميلتى الأستاذة الألمانية فقط، ولكنه استعان فى تطوير دراساته ومقترحاته تلك برأى ومشورة خبراء محليين وأيضا بخبراء فى المياه.
• • •
ما رأيته هاما للغاية فى هذه الدراسة هو كيف أنه يمكن من خلال التركيز على التعامل مع الموارد الطبيعية وخاصة الماء فى المناطق التاريخية يمكننا ليس فقط المساهمة فى الحفاظ عليها وحل المشاكل التى تواجهها، ولكن أيضا المساهمة فى حل مشاكل الأجزاء الأخرى فى المدينة، لأن الموارد الطبيعية والماء أهمها هى عبارة عن منظومات مركبة لا يمكن عزل جزء منها عن باقى الشبكة التى ترتبط بها. والتعامل مع المناطق التاريخية بهذه الصورة يساهم فى إعادة الحيوية لها كما يسهم فى تعريف الناس بأسباب وضرورة الحفاظ عليها واستثمار الجهد فيها، لأن الجميع فى النهاية سيستفيد وليس فقط مجموعة من السياح المقتدرين القادمين من بلاد بعيدة ليقضوا عدة أيام ويلتقطوا بعض الصور ويشتروا بعض الهدايا والتذكارات.
لطالما فكرت فى المنشآت الخاصة بالمياه فى القاهرة مثل الأسبلة والقناطر وأيضا الميضاءة فى ساحة المساجد، بعيدا عن كونها منشآت معمارية رائعة ويجب الحفاظ عليها ولكن لأنها دليل على مدى أهمية الماء وكيف احتفل أسلافنا بتلك الأهمية وجعلوها جزءا من حياتهم اليومية. تحكى كل من تلك المنشآت حكاية هامة للغاية، واحدة تربط الماء بنظافة وطهارة البدن الضرورية للروح، والأخرى عن الماء سواء غير محلى أو محلى وهو متاح للجميع، وحكاية أخرى عن كيف تجلب المدينة مياها من مصدره وهو النهر.
• • •
من المهم للغاية ونحن نواجه تحدى المياه فى القاهرة وغيرها من المدن المصرية إعادة التفكير فى كيفية تزويد مدينة القاهرة بالمياه لتوفير احتياجات سكانها والأنشطة المختلفة التى تجرى بها، وكيف أن ذلك مرتبط بالدورة الأكبر للمياه والتى تبدأ من سقوط الأمطار على بعد آلاف الكيلومترات جنوبا. ربما من المهم البدء فى استعادة إحساسنا بالإيقاعات الطبيعية والتى كان الفيضان أكثر مظاهرها وضوحا حتى ولو بصورة احتفالية تتزامن مع توقيت حدوثه السنوى. وربما نحتاج أيضا تسهيل الوصول للنيل ومنع المبانى التى تحجبه، وربما نحتاج أن تظهر من جديد المبانى التى تحتفل بالمياه خاصة فى الحدائق والمبانى العامة، وهناك العديد من الوسائل الأخرى التى تمكننا من أن نحتفل بصورة ذكية ومعاصرة بهذا المورد الذى بدونه لا نستطيع الحياة، وأن نتحول من مجرد إعطاء دروس عن أهمية المياه إلى جعلها جزءا من خبرتنا اليومية بالحياة. وسيكون لمردود هذا الظهور الدائم والجميل للمياه فى حياتنا اليومية تأثير كبير على تقديرنا لأهميته، وابتكار العديد من الطرق التى تمكننا من استخدامه بصورة أفضل وهو ما يساعدنا على أن نحيا بصورة أفضل.

أستاذ العمارة بجامعة القاهرة

التعليقات