نحن لا نسمع بعض.
لعل هذه هى الآفة الواضحة فى مجتمعاتنا العربية، فكل مقتنع بوجهة نظره، ويريد أن يتكلم وحده ولا يسمع غيره.
نحن لا نسمع بعض.
أحد الفلاسفة كان يقول لتلميذه فى جلساته: «تكلم حتى أراك».
يطلب منه الكلام حتى يسمعه فإن أنصت إليه فهمه وإن فهمه رآه وعرف فى ماذا يفكر.
نحن لا نسمع بعض.
الأب فى عالمنا العربى لا يسمع زوجته، والزوجة لا تسمع ابنها أو ابنتها، والابن لا يسمع لوالديه، والأسرة كلها لا تسمع بعضها بصورة أو بأخرى.. أليس أمرا غريبا؟
نحن لا نسمع بعض.
هل لأننا لا نريد أن نسمع، أو لأننا مللنا الاستماع، أو لأننا لم نعرف أدب الحديث وذوقه؟
نحن لا نسمع بعض لأننا نسينا أن الإسلام علمنا أدب وذوق الحديث.
من السلوكيات الشهيرة والتى لا تدل على الذوق: أن تقاطع الناس فى حديثهم ولا تدع لهم الفرصة للكلام.
انظر للنبى صلى الله عليه وسلم، يأتيه رجل كافر ويعرض عليه كلاما سخيفا وكله استهزاء بالدين. يقول له: يا محمد إن كان ما تفعله هذا تريد به مالا، فلك الأموال حتى تصير أغنانا، وإن كان ما تفعله هذا تريد أن تصبح به ملكا ملكناك علينا، كلها أمور سخيفة، وهذا الرجل يدعى عتبة بن ربيعة، وعندما جاء النبى قال له: يا ابن أخى إنى عارض عليك أمور يعرضها عليك قومك فاسمع منى، فقال له النبى: تكلم يا أبا الوليد، أسمع ــ انظر إلى ذوق النبى ــ ورغم كل ما قاله لم يقاطعه النبى مرة واحدة، وبعدما انتهى، سأله النبى: أفرغت يا أبا الوليد؟ انظر إلى الأدب، ولاحظ أنه يناديه بكنيته: «أبا الوليد».
فقال له: نعم، انتهيت، فقال له النبى: إذن اسمع منى: فقرأ النبى سورة فصلت حتى وصل للآية «فإن أعرضوا فقد أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود» فخاف الرجل، فوضع الرجل يده على النبى صلى الله عليه وسلم وقال له: ناشدتك بالرحم أن تسكت ــ أى حلفتك بصلة القرابة بيننا ــ فسكت النبى صلى الله عليه وسلم. أرأيت أدب الحوار.
فى يوم الطائف: ضرب النبى صلى الله عليه وسلم بالحجارة من قبيلة ثقيف، آذته بالضرب والشتم والحجارة والبصاق على وجهه، وشجت رأس سيدنا زيد بن حارثة خادم النبى، وتخضبت قدمى النبى بالدم، وفى وسط هذا يبحث النبى عن مكان يحتمى به من الحجارة فوجد بستانا صغيرا اختبأ فيه، فرق أصحاب البستان للنبى وقد غطاه الدم، فأرسلوا له صبيا صغيرا اسمه (عداس) ــ 12 سنة ــ وهو نصرانى، قالوا له: أعطى قطفا من العنب لهذا الرجل ــ فهم لم يتعرفوا على النبى ــ فوضع الصبى الطبق أمام النبى فتناول النبى واحدة وقال بصوت عال: بسم الله، فقال له الصبى: إن أهل هذه البلاد لا يقولون هذا الكلام، فقال النبى: ما اسمك؟ قال الصبى: عداس، فقال له: من أى البلاد أنت يا عداس؟، قال له: من (نينوى)، فقال النبى: من بلد الرجل الصالح: يونس بن متى؟ فقال له الغلام: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال النبى: ذلك أخى، كان نبيا، وأنا نبى، فانكب الغلام على قدم النبى يقبله، عندما كنت أسمع هذه القصة من قبل كنت أتعجب ما الذى دفع الصبى ليقبل قدم النبى؟ وقد توصلت للآتى:
1ــ أن النبى بدأ الحوار بـ«بسم الله» فلا تخفى كلمات الإيمان لكى يحبك الناس.
2ــ عندما سأله النبى «ما اسمك» وهذه من مفاتيح الحوار الجيدة أن تسأل من تحدثه عن أسمه.
3ــ وقد استخدم الاسم مباشرة وسأله من أى البلاد أنت يا عداس. وأنت تقف مع شاب وتسأله عن اسمه، فيقول لك: أحمد، وبعد دقيقة تقول له: إننى سيعد جدا بمقابلتك يا محمد، لأنك لم تركز فى الاسم، لكن النبى استخدم الاسم مباشرة حتى لا ينساه، وحتى يحبب النبى الصبى فيه.
4ــ ثم سأله عن بلده، وعندما أجاب قال له من بلد الرجل الصالح: انظر إلى نعته للرجل، وعندما قال: يونس بن متى، أتى باسم أبيه تأكيدا للرجل، وقال: إنه أخى، ثم قال: كان نبى، وأنا نبى، وكأنه ينسب نفسه إليه، وهذا من ذوقه وأدبه. فانكب الغلام على قدمى النبى يقبلهما.
من الذوق أيضا ومما علموه لنا فى بيوتنا، ألا نتكلم بصوت خفيض، (الوشوشة)، وألا نثرثر كثيرا. وكذلك النبى نهانا عن الثرثرة وكان إذا تكلم أسمع. وعلمنا شيئا جميلا: إنه عندما يكون هناك ثلاثة يقفون معا، نهانا النبى عن أن يتناجى اثنان دون الثالث، إلا إذا كنتما وسط أناس كثيرة، أو وسط أربعة مثلا، وذلك حرصا على مشاعر الثالث.
من الذوق أيضا يا شباب ألا يكون لسانك بذيئا، الشباب الآن اعتادوا على أن يسبوا بعضهم. وأنا أذكر لكم هنا:
ــ أحد التابعين كان معه ابن صغير وكان هناك كلب مر أمامهم، فقال له الطفل: سر يا كلب يا ابن كلب، فقال الرجل بغضب شديد لابنه: إياك أن تقول هذا، فقال له الصبى: لم يا أبت؟ فهو كلب وأبوه كلب فقال الرجل: يا بنى أنت قلتها للتحقير لا للإثبات، أى لا لكى تثبت أن أباه كلب؟ إنما أردت تحقيره، ولا ينبغى أن يخرج من لسانك مثل هذا.
ــ نريد أن نصل لهذا الخلق العظيم: ألا تؤذى شعور إنسان فى الكلام، كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، ولا يقول: يا فلان أنت فعلت كذا.
بعد كل ذلك عندى سؤال:
هل تسمعنى؟..