جلست صغيرتى فى حضنى كما تجلس كل مساء، وفى محاولة منها لإطالة فترة استيقاظها طالبت بقراءة قصة إضافية ثم سألت عن بطلة قصة كنا قرأناها سابقا، قبل أن تطلب منى أن أغنى لها أغنية «قمرة يا قمرة». هى لعبة تدور بينى وبينها كل مساء، تحاول فيها أن تؤجل موعد النوم وأذكرها أنا بأن القصة التى طلبتها هى الأخيرة.
***
أصبحت الدقائق الليلية تلك طقسا أتطلع إليه أثناء ساعات النهار، ورائحة شعرها حين تضع رأسها قرب رأسى وهى تنظر معى إلى الكتاب كثيرا ما تزورنى أثناء ساعات ابتعادى عنها بسبب العمل أو المواعيد خارج البيت. يربطنى بالصغيرة آخر العنقود ما يجعلنى أشعر بأنها ما زالت جزءا منى، ملتصقة بى لم تنفصل بعد. هى تشبهنى كثيرا بحسب كل من يرانا لكن لا أظن أن ذلك هو سبب ارتباطى بها.
***
تجلس الصغيرة فى حضنى فيجتاحنى حب لها وكأن أحدهم فتح صنبورا فوق رأسى. يغطينى الحب وشعور بالامتنان فأشعر وكأن ما يخرج من الصنبور هو مادة عازلة تقع على شعرى أولا ثم على كتفى فذراعى فباقى جسمى وتغلفنى بطبقة تعزلنى عن العالم من حولى. ها أنا أجلس مع الصغيرة فى حضنى لا نأبه لقسوة كل ما هو خارج دائرتنا. أنا وهى فقط، عمرها ثلاث سنوات وما زلت بالنسبة لها المرجع والمصدر والمأوى، هى لم تدخل بعد فى مرحلة الأسئلة والتشكيك والمنافسة التى تحكم علاقة كل بنت بأمها.
***
يقاطعنا أخواها فيدخلان إلى الغرفة حيث نجلس ويحاولان الانضمام إلى اجتماعنا المصغر، يتحركان فى المساحة الضيقة قرب السرير علهما يحتلان ما تبقى من مساحة. يقرر قلبى فى تلك اللحظة أن يفتح يديه لاستقبال الصبيين. بيد أنهما لا يطولان بالجلوس، فهما أكبر سنا ومنشغلان بأنواع أخرى من المماطلة. يتركان الغرفة وأعود إلى مجلسى مع الصغيرة.
***
أماطل أنا هذه المرة وأسألها عن يومها، لا تفهم فهى فى عمر كل أيامه بالنسبة لها متشابهة وقد لا يكون لديها أصلا مفهوم عن الوقت. أحكى لها عن بنت صغيرة تنظر كل ليلة إلى القمر من شباك غرفتها فيبتسم لها. تصر ابنتى أن نقف عند الشباك ونبحث بدورنا عن وجه القمر. فى ليل القاهرة، أطلب من الكون أن تدوم دقائقى مع الصغيرة، أنا لا أطالب بالكثير، فقط أن يمنحنى العالم ما يكفى من السنوات حتى أراها تكبر. أريد ليالى كاملة من قصص ما قبل النوم وقبلة ما بين الأحلام. أريد ليالى أصحو فى منتصفها على صوت خطوات ابنى الأوسط الذى أراه فجأة أمامى فأعرف أنه بحاجة إلى حضن. لا أسأل إنما أبتعد فى السرير ويندس قربى. أتساءل إن كان سيتسع له السرير بعد سنة أو سنوات، حين يكبر الطفل ويتكبر على حاجته إلى حضن أمه.
***
لا يهم، أنا الليلة هنا، تشربت حب ما قبل النوم وسرقت نص ساعة إضافية من أولادى رغم لومى لهم على تأخرهم عن موعد النوم اليومى. أريدهم حولى، كدليل على أن عالمى الصغير ما زال متماسكا رغم العواصف من حولى. هل يعى الأولاد أنهم مصدر قوة وشعور بالثبات؟ أظنهم أصغر من أن يتفهموا أنهم، ولست أنا، من يبث شعورا بالطمأنينة والأمان. يقال أن الحاجة للشعور بالأمان من أقوى الدوافع عند الإنسان، لا عجب إذا من تمسكى بلحظات أدفن فيها أنفى فى شعر طفلة عمرها ثلاث سنوات فأشم رائحة أمى قبل قرابة الأربعين عاما تدفن هى الأخرى أنفها فى شعرى. هنا، فى هذه المساحة شديدة الخصوصية، أتشارك مع ملايين الأمهات سرا لا يعرفه إلا نحن: هناك طاقة تفتح بين القلب والسماء حين نستنشق رائحة طفل قبل النوم.
***
أنا فقط هنا، أطوف كالشبح فوق أطفالى الثلاثة النائمين وآخذ من كل منهم بعضا من السكينة. أقلد فى ذلك ملايين الأمهات ممن اكتشفن تلك الغرفة السرية فى قلوبهن من قبلى، فدخلنها وقضين فيها دقائق ليلية انتزعهن من دوامات حياتهن. أمى أيضا لطالما دخلت تلك الغرفة وقفلت على نفسها ريثما تستعيد هدوءها لطالما أجلستنى فى حضنها كما أجلس أنا وصغيرتى وبحثت فى ارتباطها بى عن مصدر للقوة تماما كما أفعل أنا مع ابنتى. وفجأة أفهم السر: أريد من صغيرتى أن تتذكر هذه اللحظة بعد أربعين سنة حين تكون هى الأخرى فى مرحلة صاخبة فى حياتها. أريدها أن تتذكرنى وأنا أحضنها وأن تعرف أننى فى تلك اللحظة لا يعنينى سوى حبى لها. أريدها أن تتذكرنا معا حين يقل صبرها علىّ وعلى حاجتى لوقت معها وهى مشغولة.
***
تهدأ الأصوات فى البيت، تنتظم حركة الصدور فى سمفونية التنفس الصامتة التى يعزفها أولادى الثلاثة فى ليلة قاهرية صافية السماء على غير العادة. يخيم النوم على المنزل لكنى لا أتحرك. أنا فى قمة وعيى وفى لحظة صفاء ذهنى لا تشوبه أية خاطرة. أريدهم أن يتذكروا أننى فى هذه الليلة لم يهمنى سوى لحظات الحب ما قبل النوم، هنا مصدر السعادة.