ربما لم يخطر على بال أحد أن عام ٢٠٢٠ سيضع العالم فى هذا المأزق، عالم حبيس حدوده القومية، ملامح البشر تغيرت، شكل الحياة كله انقلب رأسا على عقب، تغيرت أولويات وأمنيات البشر، أصبحت الدول فقيرها وغنيها فى حالة طوارئ دائمة، تغير حال المجتمع العالمى لرجال المال والأعمال، توقفت الصلوات الجماعية، توارى مشاهير الفن والرياضة لصالح الأطباء والعلماء والمتخصصين، اضطر متغطرسو السياسة العالمية إلى تغيير الخطاب والسياسات والتنازل عن المواقف المتعجرفة التى سبق واتخذوها، لم تتراجع العولمة ولن تتراجع، بل شعر وسيشعر العالم بأهمية الترابط والتعاون مستقبلا لأن ما قد يحدث فى سوق للأسماك على بعد آلاف الأميال قد يضرب حدودك وشعبك واستقرارك فى أسابيع محدودة! لأن الفقير والغنى فى نفس المركب، لأنها لحظة يتقارب فيها الحاكم مع المحكوم، المعارض مع المؤيد، باختصار إنها لحظة عالمية فاصلة وسيتغير العالم بعدها كثيرا، فالعالم ما بعد كورونا لن يكون أبدا مثل ما قبل انتشار الفيروس!
***
فى أيام الحظر الطويلة، يعود الإنسان لاكتشاف نفسه، اكتشاف منزله، اكتشاف من حوله، يقوم بمراجعة كل حياته فى انتظار انتهاء الكابوس والخروج إلى العالم من جديد. لا يعتقد معظم العلماء أن الأزمة ستنتهى سريعا، الأمل أن تتحسن الأمور وتقل الإصابات والوفيات بحلول الصيف، قد تكون هناك موجة ثانية مع الخريف ومن المتوقع أن تستقر الأمور بحلول صيف ٢٠٢١ وربما قبل ذلك. ليس أمامنا سوى التسليم بالقدر، والتمسك بالأمل، والبعد عن مصدرى الطاقات السلبية، والبحث عن مصادر الطاقة الإيجابية، ومن أهم مصادر الطاقة الإيجابية، هى الأمنيات، أن تتمنى وتحلم هذا فى حد ذاته دافع للتغلب على المصاعب، فما هى أمنياتكم لعصر ما بعد كورونا؟ هذه بعض من أمنياتى العامة:
رأسمالية مسئولة اجتماعيا: لا أتمنى أن يختفى النظام الرأسمالى كما يتمنى بعض الأصدقاء، ما زلت أرى أن رأس المال هو عصب التقدم والتنمية والمنافسة، وأن السياسات اليسارية المتطرفة لا تقل ضررا عن السياسات اليمينية المتطرفة، لا توجد دول تملك وتحتكر رأس المال لأن الدولة ليست إلا كيانا اعتباريا، فى النهاية الدولة يقودها مجموعة من النخب، وإذا كانت السياسات اليمينية المتطرفة تخضع السياسة لخدمة أصحاب رأس المال، فإن نظيرتها اليسارية تخضع السياسة لسيطرة الحكام وأصحابهم وعائلاتهم! أتمنى أن نخرج من أزمة كورونا نحو سياسات يمين/ يسار الوسط، حيث رأس المال الحر ولكنه فى الوقت ذاته مسئول مجتمعيا، الصحة والتعليم والتأمينات الاجتماعية بالإضافة إلى البنية التحتية هى من صميم اختصاص الدول وممثليها من السياسيين المنتخبين ديمقراطيا، المواطن وصحته ووعيه العام فى النهاية مسئولية الدولة وممثليها ولا يمكن تركه فريسة للسوق ورأس المال كما فعلت السياسات النيوليبرالية على مدى العقود الأربعة الماضية.
ديمقراطية تمثيلية: وارتباطا بالأمنية السابقة، أتمنى أن تعود الديمقراطية التمثيلية، أى تلك التى تمثل الأغلبية فى إطار ضمانات محمية دستوريا للأقليات الدينية والعرقية واللغوية والجندرية.. إلخ. لا شك أن موجة الشعبوية التى ضربت العالم قبل وباء كورونا كانت واحدة من نتائج تراجع الديمقراطيات التمثيلية وخضوع المؤسسات والعمليات الديمقراطية للسلطة المطلقة لرأس المال، عودة الديمقراطيات التمثيلية وإعادة الاعتبار لعمليات البحث عن النخب السياسية الواعدة وتصعيدها أصبح أمرا لا مفر منه وأتمنى أن يسود بعد أن ينحسر الوباء. واحدة من أهم أسباب تأخر رد الفعل فى التعامل مع تهديد كورونا هو ضعف القرارات المؤسسية لصالح المغامرات الفردية للحكام الشعبويين وهو ما أدى إلى تفاقم الأزمة نتيجة تأخر التعامل معها والتهوين من أخطارها ورؤيتها بمنظور المؤامرة، عودة الديمقراطيات التمثيلية تعنى عودة المؤسسات المسئولة وبالتالى إدارة أفضل وأكثر شفافية للكوارث والأزمات.
رد الاعتبار لدور الأديان: فى عقود ما قبل كورونا عانى العالم من تصاعد تيارين متطرفين، التيار الأول هو التيار الدينى المتطرف، الذى حوّل الدين إلى أداة للسيطرة السياسية، وطوّر خطابا شديد التطرف يعادى الآخر ويكفر كل ما حوله، وتيار آخر علمانى متطرف يرى فى كل متدين متطرفا، يرفض دور الدين كلية ويدعو إلى عالم شديد المادية لا يعترف بالروحانيات ولا بدور الأديان. أتمنى أن يعود للعالم توازنه الروحى بعد كورونا، لا حياة بدون روح، ولا توازن نفسى بدون إيمان، أتمنى أن نخرج من مطرقة التطرف الدينى وسندان التطرف العلمانى إلى عالم يعيد الاعتبار لدور الدين باعتباره أهم الملاجئ النفسية ــ لا السياسية ــ للمؤمنين، عالم لا يلعب فيه رجال الدين سوى أدوار روحية لا غنى عنها من أجل استقامة الحياة، عالم يشارك فيه الدين كما العلم فى قيادة النهضة والحضارة والتطور والتنمية، ليس للإنسان وحياته ومماته أى معنى دون وجود الإله، قد نختلف فى تصور طبيعة الإله وسرديته التاريخية، لكنه فى كل الأحوال موجود ولا قيمة لمستقبل حياتنا دون رجاء محبته ورحمته.
رد الاعتبار للعلم والعلماء: فى معظم دول العالم إن لم يكن كلها فإن دخول وثروات نجوم الكرة وبعض الرياضات الجماعية والفردية الأخرى فضلا عن مشاهير المغنيين والممثلين أضعاف دخول العلماء والباحثين، هذه فى حد ذاتها ليست مشكلة، فهذه طبيعة الأمور ولا يمكن تغييرها، لكن كانت المشكلة فى عصر ما قبل كورونا أن المكانة المجتمعية للعلماء أقل بكثير من نظرائهم فى الفن والرياضة والموسيقى... إلخ. هذه الأزمة أوضحت وبشدة الحاجة لدور العلماء والباحثين المتخصصين فى كل المجالات، لابد من إعادة الاعتبار لمكانتهم المجتمعية، هذا دور الدولة ورجال الأعمال والإعلام، العلماء هم خط الدفاع الأول عن سلامة المجتمعات العقلية والنفسية والجسدية، أتمنى أن ينتهى عصر كورونا بتوجه عالمى يدعم التعليم العالى ولا يعتبره مجرد سلعة تباع وتشترى، أن تعود أهمية البحث العلمى ويتم ضخ المزيد والمزيد من الاستثمارات فى المختبرات والمراكز البحثية وأجهزة دعم صناع القرارات. العلم هو المستقبل والعلماء هم قادة هذا المستقبل.
عودة الدولة: أتمنى أخيرا أن يعود دور الدولة فى إدارة الشأن العام، نعم، صحيح أن الدولة هى صاحبة الحق الحصرى فى استخدام أدوات العنف والضبط، لكن هذا ليس فقط دورها، الحقيقة أن الدولة هى الكيان الاعتبارى القادر على الإدارة الشاملة للأزمات، والقادر على بث الأمل أو الإحباط فى نفوس المواطنين، كما أنه الكيان الوحيد القادر (حالة انتخابه ديمقراطيا) على التعبير عن المصلحة العامة بمعناها المجرد. رأينا فى الأزمة الحالية أهمية دور الجيوش والأجهزة الأمنية فى الإدارة اللوجستية للأزمة، كما رأينا دور الأجهزة الرقابية فى ضبط الأسعار، ودور المؤسسات الصحية فى العمل فى خطوط المواجهة مع الوباء، كذلك رأينا الفرق فى طرق الإدارة وصياغة الخطاب العام تجاه الأزمة بين قادة تعاملوا بمسئولية طمأنت شعوبهم، وبين آخرين لم تكن خطاباتهم وبياناتهم سوى كوارث خالصة أضعفت الثقة فى قدرة الدولة على المواجهة، أتمنى أن تعود الدولة بهذا المعنى، لا يجب أبدا الخضوع لدعوات اكتفاء الدولة بدور الشرطة أو لعبها دور تاجر السلاح أو سمسار العقارات، الدولة وممثلوها أهم وأكبر من ذلك ولا غنى عن دورهم المستقبلى فى الإدارة المسئولة والشفافة للشأن العام.
هذه بعض أمنياتى العامة لعصر ما بعد كورونا، أتمنى أن نراها أقرب مما نعتقد ونتوقع حين تزول الكارثة إن شاء الله.
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر.
الاقتباس
هذه الأزمة أوضحت وبشدة الحاجة لدور العلماء والباحثين المتخصصين فى كل المجالات، لابد من إعادة الاعتبار لمكانتهم المجتمعية، هذا دور الدولة ورجال الأعمال والإعلام، العلماء هم خط الدفاع الأول عن سلامة المجتمعات العقلية والنفسية والجسدية.