علاقتنا غير المفهومة بالبحر - نبيل الهادي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:46 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

علاقتنا غير المفهومة بالبحر

نشر فى : الأربعاء 11 مايو 2022 - 7:45 م | آخر تحديث : الأربعاء 11 مايو 2022 - 7:45 م

لأن أغلب المدن المصرية مرتبطة بالنيل بصورة أو أخرى، فالشوق للتمشية بمحاذاة ذلك الأزرق الجميل يدعونى كما يدعو الآلاف وربما الملايين فى مصر خاصة فى أيام العيد. هذا العيد زرت منطقة من كورنيش الإسكندرية لم أزرها منذ شهور.

تمشى بمحاذاة الكورنيش فترى البحر وتنشرح؛ وتقف للتأمل ولتشم رائحته المنعشة. ثم تمشى قليلا فترى مكانا كان من وقت قريب مقهى على البحر ولكنه أزيل، فيزداد انشراحك وتدعو من معك لتنظر كيف توسعت المسافة التى نمشى فيها ونرى فيها البحر. ثم تمشى قليلا وتجد نفسك وسط الكثير من الشباب الممتلئ بالطاقة على الرغم من أن مكان المشاة ليس بالاتساع الذى يستوعب كل هؤلاء السائرون. ثم ترى مقهى آخر وبه بعض الجالسين، ولكنك من أجل أن ترى البحر عليك بالنظر من خلالهم، وهذا بالطبع أمر مزعج؟ ثم نمشى قليلا وإذا بمقهى آخر يملأ أنفك برائحة الطعام التى يتم تجهيزها فى مساحة ضيقة للغاية جنوب الممشى الضيق الذى نمشى فيه بصعوبة، حتى إننا لا يمكننا أن ندير وجهنا وننظر للبحر، ولا يعنى مستأجر المقهى أى شىء ماعدا استرداد ما أنفق وتحقيق أرباح، فاستخدم سطح المقهى كمساحة إضافية لمرتاديه.

اعتدت من زمن أن أرى البحر وأنا قادم من محطة القطار، لكن الآن يحول بينى وبين البحر كوبرى علوى للسيارات لم أستطع نهائيا فهم مبرر إنشائه، ولكنه جعل المكان بؤرة تتجمع فيه العديد من المبانى غير المتناسقة من فندق ضخم ومطاعم ومقاهٍ لا أكاد أحصيها. هذه الكثافة الزائدة المتناثرة فى مناطق مختلفة بطول ساحل الإسكندرية ليس لها علاقة بالجمال، بل ربما العكس تماما.
• • •
فى اليوم التالى قررت أن أمشى فوق الكوبرى، والذى للأسف لا يوجد به رصيف يتسع المشاة من بدايته لنهايته. أتيحت لى حينها رؤية المبانى المزدحمة من علٍ وفيها العديد من الشواطئ الخاصة المحمية بالخرسانة المصممة للحماية من البحر، والتى لا بد وأنها باهظة التكلفة ولا أدرى بالطبع من دفع تكلفتها.

السؤال بالنسبة لى هو هل تلك الحمايات البحرية الخرسانية هى الاستجابة الأصوب لما يحدث حاليا من نحر ومشاكل أخرى للشاطئ، خاصة مع ما هو متوقع قريبا من ارتفاع منسوب مياه البحر وما يمثله من تهديد، ليس فقط للإسكندرية ولكن لملايين من السكان على امتداد ساحل البحر المتوسط فى مصر وغيرها؟.

أفهم أن هناك من يركز على الفائدة الاقتصادية قريبة المنال، وخاصة أن البحر مكان يحب أغلب الناس أن يكونوا بقربه. ليس لدى أرقام توضح مدى تأثير مثل تلك الاستثمارات وتركيزها فى مكان محدود على الكورنيش على اقتصاد المدينة، وخاصة فى جذب استثمارات يمكن لها أن تعيد ازدهار وسط المدينة. أتمنى أن تكون هناك بيانات مستقاة من الضرائب وخلافه، والتى تستطيع أن ترسم لنا صورة أدق عن اقتصاد المدينة وكيف يتغير، وهو ما سيساعد بالتأكيد الإدارات فى المدينة فى تبنى السياسات الرشيدة التى تعظم من الفوائد للمجتمع ككل وتعمل على توزيعها بصورة أكثر عدالة.
• • •
رأيت أحد المبانى الذى ربما تم إنشاؤه فى النصف الأول من القرن العشرين وقد أعاد ملاكه له الحياة، ويبدو فى حالة جيدة جدا على الأقل من الخارج، وأتمنى أن يكون من الداخل كذلك. ولكنى قارنته بالعديد من المبانى بطول الكورنيش وقد تدهور حالها وانهار بعضها بالفعل واقترب البعض الآخر منها من الانهيار، كما يغيب السكان عن البعض الآخر، وهذا يجعلك تتساءل عن مصير تلك الثروة الكبيرة ولماذا لا يفكر هؤلاء المستثمرون، ربما بالشراكة مع الإدارة المحلية من خلال إعطاء حوافز حقيقية لمالكى تلك المبانى، فى ترميمها بصورة لائقة ومن ثم عرضها للإيجار ولو بصورة مؤقتة لينعشوا الحياة على امتداد الكورنيش بدلا من تلك المبانى المثيرة للشفقة الآن. لماذا نهمل أو ننسى ما هو موجود ونتركه للمصير المحتوم ونشرع فى بناء ما نعتقد بأنه الحل؟

أتصور أن أى حساب بسيط للعائد من تلك الأنشطة التى تحميها تلك الخرسانة لا يستطيع أن يغطى تكلفة تلك الحمايات البحرية. لماذا إذا أقيمت تلك المبانى؟ وهل تعادل تلك الفائدة حرمان الآلاف، إن لم يكن الملايين، من التأثير الصحى الإيجابى على صحتهم البدنية والنفسية وتقليل تكلفة الرعاية الصحية على الأقل فى الإسكندرية؟
• • •
تشير العديد من المنظمات الدولية ومراكز الأبحاث إلى أهمية إيقاف تدهور الطبيعة وإعادتها لحالة الازدهار إذا أردنا إنقاذ البشرية من المخاطر الكبرى المنتظرة من التغيرات المناخية وتدهور التنوع الطبيعى. هذا الربط المباشر بين الطبيعة والحياة المقبولة، خاصة لأولادنا، يجب أن يكون إحدى المبادئ الرئيسية للعاملين بالمدن؛ لأن استمرار تدهور علاقتنا مع الطبيعة، سواء كانت بحرا أو نهرا أو صحراء أو خلافه، تدفع بشدة لنقطة اللاعودة، ليس فقط للإسكندرية ولكن للمدن المصرية بشكل عام.

ما قرأته أيضا عن الخيارات المتاحة للتعامل مع هذا التحدى الكبير يرجح ما يسمى بالتراجع الاستراتيجى، أو ترك مساحة للطبيعة البحرية وإخلاء تقابل اليابسة والماء من التدخل البشرى، والابتعاد عن خط البحر للداخل لمسافة كافية. يعتبر هذا الحل الأكثر استدامة وفى الأغلب الأقل تكلفة، فهل ما زلنا فى صدد شراء بعض الوقت من خلال بناء تلك الشواطئ الخاصة التى تحتجز البحر حتى ولو لسنوات محدودة قادمة فى محاولة يائسة من البعض لإيهام أنفسهم أن البحر ما يزال بخير وأن بعضنا ما زال باستطاعته الاستمتاع به؟
نحن بحاجة لتحويل حالة المواجهة غير المنضبطة مع الطبيعة كما تظهر فى تعاملنا مع البحر إلى حالة أخرى من التصالح والاهتمام والحب الحقيقى الذى لا شك فى أنه يستحقه. نحتاج لبعض الحكمة التى تدفعنا للتأمل فيما يجرى والتفكير فى عواقبه القريبة والبعيدة، وربما وقتها نستدعى الكثير من تلك الحكمة للبدء بأسرع وقت فى إنقاذ ما هو أسهل، ليبدأ بعدها تأثير الدومينو على باقى الكورنيش لنستعيده لهؤلاء المتطلعين لهذه الطبيعة البديعة، ليتناجوا معها ويشكون لها همومهم ويشاركونها سعادتهم وأفراحهم ويجددوا منها طاقتهم ويستلهمون من إيقاعاتها ما يساعدهم على النضال اليومى للسعى للحياة الكريمة ومساندة الآخرين.

التعليقات