نشر موقع وطنى المصرية ــ تصدر أسبوعيا يوم الأحد ــ مقالا للكاتب يسرى مصطفى، تناول فيه التعريفات والتصنيفات المتعددة للذاكرة، والمراحل التى يمر بها عمل الذاكرة.. نعرض من المقال ما يلى.
«إن الحياة كلها ذكرى، باستثناء اللحظة الحالية التى تمر بك بسرعة بحيث تلحظ مرورها بالكاد»، بهذا الاقتباس من مسرحية «قطار الحليب لم يعد يتوقف هنا» للكاتب المسرحى الأمريكى تينيسى ويليامز، يستهل كريستوف كوتش مؤلف فى كتاب «البحث عن الوعى» حديثه «الذكريات والوعى». عندما نفكر فى هذا الكلام، فإننا نكتشف بأننا نعيش لنجمع ذكريات، بعضها يبقى وبعضها يتلاشى، ومنها ما نتمنى أن يبقى، ومنها ما نتمنى زواله. إنها الذاكرة مخزن الذكريات وبؤرة التعلم، والتى بحكم تكويننا البيولوجى والعصبى والنفسى كبشر، باتت السمة الأكثر تطورا والأكثر تعقيدا من كل الكائنات الحية. وإذا كانت الحياة كلها ذكرى، فإن الحاضر، الذى يمر كالبرق، مجرد لحظة لاقتناص مادة الذكريات، أما عمل الذكريات فيمتد عبر الزمن: خبرات ماضية تصنع تخيلات مستقبلية. فما هى تلك المنظومة العجيبة والمعقدة التى نسميها الذاكرة؟
هناك تعريفات وتصنيفات متعددة للذاكرة يصعب الخوض فيها وتتبع مساراتها البحثية، ولكن ثمة مشتركات بين مختلف التعريفات يمكن الاستناد إليها فى تعريف الذاكرة، أولها أن الذاكرة هى الجسر الرابط بين حاضر الإنسان وماضيه، فالكائن الحى، والإنسان على وجه الخصوص، محصلة سلسلة تجارب وخبرات حياتية هى التى تشكله، والذاكرة هى مستودع هذا التشكل؛ ثانيا: الذاكرة عملية بيولوجية ونشاط عقلى، أو كما يصفها فرانسيس أوستاش، أخصائى علم النفس العصبى، «الرحلة العقلية التى تسمح لنا بالتحرك»؛ ثالثا: الذاكرة عملية دينامية انتقائية تتضمن ثلاث مراحل تبدأ باكتساب المعلومات وتخزينها (أو التخلص منها)، ثم استعادة المعلومات المُخزنة. والشائع أننا نربط الذاكرة بالقدرة على استحضار أو استدعاء المعلومات أو الأحداث، مع أن هذه المرحلة هى أحد المراحل الثلاثة التى تشكل فى مجموعها بنية الذاكرة. كما أننا نربط بين الذاكرة والماضى، ولكن فى الحقيقة أن الذاكرة تعمل من أجل المستقبل أيضا، وفقدان الذاكرة لا يعنى فقط الانقطاع عن الماضى، والذى يعنى بدوره انقطاعا عن المستقبل.
وفى مقال منشور بمجلة الثقافة العالمية (العدد 130، مايو 2005) بعنوان «الذاكرة: اكتشاف جزئية النسيان» وصفا للذاكرة هو: «إن ذاكرتنا على درجة مذهلة من التعقيد، فهى بمثابة الجسر الممدود عبر الزمن، تنهل من ماضينا لكى تثرى حاضرنا، وتحتفظ بمعلومات الحاضر لتحولها إلى معالم المستقبل، وتمكننا فى الوقت نفسه من استدراج السنين، وهى التى تشكل هويتنا من حيث: علاقتنا بالعالم، أعمالنا وأحلامنا وما اكتسبناه من معرفة». وهى العملية وإن كانت متجلية فى المشاعر والأفكار والرموز، إلا أنها بالمعنى العضوى عملية بيولوجية وعصبية، فالذاكرة «عبارة عن كيان ديناميكى يعمل عبر شبكة مكونة من مليارات الوحدات العصبية شديدة التعقيد. هذا الكيان الديناميكى يستمد قدراته المذهلة من جزيئات صغيرة ــ لا تكف عن العمل ــ وتقوم بمهمة عجيبة: تنشيط الوحدات العصبية تارة، كبح نشاطها تارة أخرى… كيف؟ عبر سلسلة من الزخات البيوكيمائية».
ومن منظور بنية وآلية عمل الذاكرة، فإن المصادر المتخصصة تعرفها بأن «نظام لمعالجة المعلومات»، وهذا النظام يرتكز على المراحل الثلاث المشار إليها سابقا، أى الاكتساب والتخزين والاستدعاء. فالمعلومات المكتسبة التى يتم تخزينها وحفظها ومن ثم استرجاعها تخضع لعملية ترميز أو تشفير منذ البداية. ووفق ما ورد فى كتاب «سيكولوجية الذاكرة» للدكتور محمد قاسم عبدالله فإن «المثيرات غير المرمزة لا تشكل جزءا من خبراتنا ولا نستطيع معالجتها». ويعزو ذلك إلى أسباب متعددة منها أننا قد لا نملك القدرة والأجهزة الحسية اللازمة لاستقبال بعض المثيرات الموجودة فى البيئة حولنا مثل الموجات الضوئية أو الأشعة أو بعض الترددات الصوتية. كما أن الانتباه أساسى فى استقبال ومن ثم ترميز الأحداث والمعلومات، فبدون الانتباه أو بسبب ضعفه تمر الأحداث والمشاهد والمعلومات بدون أن تمس نظام الذاكرة.
أما المرحلة الثانية، التخزين والحفظ أو الاحتفاظ، فهى محور نظام الذاكرة، ولكن المدى الزمنى لبقاء المعلومات يتفاوت، فمنها ما يبقى لفترات زمنية قصيرة ومنها ما يبقى لفترات أطول وقد ترافق الشخص على مدى عمره. ومن هنا يأتى التصنيف الأساسى للذاكرة ما بين قصيرة وطويلة المدى. وفى المرحلة الأخيرة التى تسمى الاستدعاء أو الاسترجاع أو التذكر يتبين إذا ما كانت دورة الذاكرة قد اكتملت أم تعرضت لانقطاعات كلية أو جزئية، ومؤشر ذلك هو القدرة على استدعاء المعلومات أو استرجاع الأحداث بشكل إرادى أو لا إرادى، أو من خلال مثيرات ومحفزات، وهى ليست قدرة مطلقة ولكنها نسبية وتؤثر فيها مجموعة من العوامل منها ما هو عضوى بيولوجى أو نفسى.
وللذاكرة تصنيفات متعددة، منها ما يتعلق بسعة الذاكرة ومداها الزمنى، أى الذاكرة قصيرة أو طويلة المدى، ومنها ما يتعلق بطبيعة ما نتذكره، فكما يرد فى بعض معاجم علم النفس والتحليل النفسى، فثمة ذاكرة تختص بالأسماء، وذاكرة للأماكن، وذاكرة للأرقام، وأخرى للأفكار وغيرها للصور إلخ. ويخبرنا المتخصصون أن الذاكرة هى قدرة عقلية تتفاوت من شخص لآخر، وحتى الشخص الواحد تتفاوت قدراته من ذاكرة لأخرى، وحسب نوع المعلومات التى تشكل مادة الذاكرة، وكذلك السياقات، والمرحلة العمرية، وتختلف الذاكرة فى سعتها، فالذاكرة قصيرة المدى ذات سعة كبيرة ولكنها محدودة، أما الذاكرة طويلة المدى فذات سعة غير محدودة نسبيا. ولهذا فإن بعض المصادر تشبه الذاكرة بالكون، فكلاهما يتسع بقدر ما يكشف، وعلماء النفس على غرار علماء الكون يستخدمون عبارة «لا حد لها» لوصف الذاكرة.