إنها أوقات تزدحم بها الفضاءات على اختلافها بكثير من التكهنات والمخاوف وربما الأسئلة المستعصية، ومنها متى تكون الحرب؟ ومن سيبدأها؟ وعلى أى الجبهات؟ مجتمعة كمحور مقاومة أم متفرقة؟ وكيف ستتوسع أو تنتهى؟ وإلى أى مدى ستتوسع؟ هناك تبرز الفرصة لمقتنصى اللحظة من خبراء ومحللين وباحثين وصحفيين ميدانيين أو حتى فقط مدعى المعرفة بهذا الفريق أو ذاك، حتى راح بعضهم يسطر صفة بعد اسمه «مقرب من حزب أو فصيل أو دوائر صنع القرار فى العاصمة الفلانية!».
• • •
هناك كثير من «الخبراء» تخصصهم فن اقتناص الفرصة، وهم من يتطوعون لعرض قائمة طويلة من السيناريوهات مدركين ربما بوعى أو بدون وعى أنها مجرد تكهنات، وكأنهم فى ذلك كمن باع الأهرامات لأول سائح خليجى وطأ أرض مصر بعد الطفرة النفطية! لا يستطيع ذاك الذى بقى لأكثر من تسعة أشهر حاملا عصاته ليشير للتحركات العسكرية والتوقعات المقبلة بين المخيمات والبلدات والمستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء والجوامع والكنائس، إلى مدن بعيدة يعرف الجاهل منا أنها مشاركة فى صنع قرار المذبحة وواضعة لأسس الإبادة لأنها ربما مارستها من قبل على كثير من الشعوب والأمم..
• • •
يسهل على الجالسين فى ذاك المبنى الصغير هنا أو هناك فى مدينة أو مدن تبعد سنوات ضوئية عن الأرض المحترقة، يسهل عليهم أن يضعوا تفاصيل معارك وحروب وهم أبعد من يكونون عن صانعى القرار أو حتى متلقى الخبر أو الإنذار! وما يضيرهم إذا ما قالوا للجالس فوق قبور لأحبته أن القادم أسوأ. ذاك الذى تعود أو عود نفسه ومن حوله على أن يكون إعلان الموت هو الإعلان الوحيد الملازم له كل صباح وضحى وظهر ومساء وليل، فالعدو لا يفرق. وهم أيضا لا تعنيهم أن الحروب لم تعد تقليدية ولها قواعدها، بل أصبحت متطورة حيث الدبابة والصاروخ على نفس أهمية منع الماء والغذاء والاغتصاب فكلها أسلحة حرب وقد تكون أكثر دمارا.
• • •
هم أيضا وللتذكير قد لا يكونون جميعا مدركين لحجم الدمار النفسى الذى يتسببون فيه أو حتى إنهم فى لحظة ما يتحولون إلى جزء من أسلحة الإبادة الصهيونية، ألا يساهموا فى هدم المعنويات كما تهدم الصواريخ البيوت بما تحمله من ذكريات وتاريخ ومشاعر وصور؟
• • •
كتب أحد الزملاء الإعلاميين المحترفين ما معناه أن أى تكهن الآن بتوقيت أو تفاصيل الحرب القادمة أو رد المقاومة على ما تم من اغتيالات وقصف للأبرياء من فلسطين، مرورا بلبنان حتى اليمن، أن كل ذلك مجرد تكهنات لا قيمة لها لأن القرار يصنع فى أضيق محيط ومحدود بمجموعة صغيرة جدا، وبه تفاصيل بالتأكيد لا علم لمعظم حاملى لقب «خبير أو محلل» بها. وللأهمية فكما يستخدم الاحتلال الصهيونى ولسنين عدة الحروب النفسية، فقد بدأ المقاومون فى مواجهته ليسقوه من نفس الكأس كما نقول بالعامية.
• • •
فى هذه الأجواء المشحونة بالخوف للواقفين تحت سماء المذبحة أو المرعوبين وطائراتهم الحربية تكسر حاجز الصوت فتزلزل الحجر قبل القلوب التى عرفت الحروب أو ربما لم تعرف سواها لسنين، فى مثل هذه الأوقات أليس من المهم أن نواجه الحرب النفسية بحرب مثلها إما بالتوقف عن التكهن والتخمين و«ضرب الودع» وقراءة الفنجان والمنجمين والمنجمات! أو عبر رسم خرائط موسعة للموت القادم الذى لن يترك روحا ولا حجرا ولا نخلة ولا شجرة ولا حيوانا ولا عصفورا ولا سمكة فى البحر؟
• • •
الانتظار سلاح حرب، ونشر الرعب عبر الكلمات وما يسميه البعض "شعارات" هو سلاح حرب أيضا، وشل الحركة الاقتصادية أو فى الموانئ هو سلاح حرب دون قطرة دم! كلها أسلحة بالطبع لا تضاهى بشاعة سلاح الماء والغذاء والحصار و«الاحتفال» بقتل الأطفال وتصوير اغتصاب المعتقلين السياسيين من قبل الجنود والتباهى بهذه الجرائم، بالطبع تلك أسلحتهم وهذه أسلحتنا فلنتعلم كيف نستخدمها بإتقان بدلا من تضييع الوقت والنفس والجهد والقلب فى الاستماع لتحاليل بضع أشخاص لن نطلق عليهم التسميات ولكن بعضهم من «تجار الحروب» ربما!
• • •
حين يتراسل الأصدقاء ويتواصلون بحثا عن ما يمكن أن يسكن القلوب المتعبة فلا يجدون سوى صدى خوفهم يعبر البحور والمحيطات ويرفعون الامنيات وكثيرا من الدعاء، وفى أوقات أخرى يرسلون بالرسائل الخجلة والخانعة لكل أهلنا فى غزة ولبنان (جنوبه وضاحيته وكله) واليمن، لا لتطمينهم بأن قلوبنا معهم بل لتعريفهم بمدى امتناننا وشكرنا وتقدير كثير من البشر الأحرار فى أركان الأرض، لأنهم يحرروننا جميعا ويعيدون لنا إنسانيتنا بأرواحهم وأرواح أبنائهم وأعز ما يملكون، وهم من يعلموننا فن الصبر والإيمان واليقين أن للحق يوما كما كان للظلم أيام وسنون!