من جديد نلتقى، وهذه المرة سأبدأ بسؤال أحب أن أسأله كل عام: هل تفضل أن تعيش فردا داخل المجتمع لكن منعزلا عنه أم متفاعلا معه؟
لا، السؤال أصلا: هل تقدر أصلا أن تعيش وحدك فى المجتمع وتنفصل عنه وتغلق على نفسك؟
بمعنى آخر.. تحب تعيش فى مصر كفرد تأخذ ما تستطيع أخده من البلد والناس والمجتمع ولا تعطى شيئا، تبحث عن حقوقك ولا واجبات عليك أو تتهرب منها، هذا ما يحدث الآن فى بلادنا.. فما هو رأيك؟
فكرة الإسلام الأساسية، أنت، كفرد، لك احتياجات وغرائز ورغبات، حقك أنك تشبعها وتحققها لكن أنت لا تعيش وحدك، أنت جزء من مجتمع، عش كما شئت واستمتع أنت وأولادك، لكن إياك أن تنسى أنك لبنة وطوبة فى بناء مجتمع يجب أن تكون احتياجاته فوق رغباتك.
كلمتى اليوم عن العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين رغباتنا الشخصية وغرائزنا وبين احتياجات المجتمع، العلاقة بين العام والخاص.
فماذا يحدث لو كل فرد عاش لتحقيق رغباته وغرائزه ومتطلباته ونسى احتياجات المجتمع.
يحدث مثل ما هو حاصل فى بلادنا الآن، يتحول المجتمع كله إلى جزر منعزلة.. كل فرد يريد أن يحقق كل مكاسبه على حساب المجتمع.
يحدث مثل هذه الأمثلة: واحد يستورد أغذية فاسدة تصادر منه، يتحايل ويعيد تعبئتها.. هو يكسب والمجتمع يموت.
واحد يستورد محابس غاز من الصين تطلع غير مطابقة للمواصفات، يتحايل حتى لا يخسر فلوسه وتتركب فى البيوت ويتسرب الغاز والناس نايمة، ويموت أطفال وشباب.
يحصل إن عمارة تقع هنا وهناك بسبب غش فى المواصفات.
أو ممكن يحصل نوع آخر من الفردية، هو لن يسرق ولن يغش لكن لن يشارك فى أى قضية تهم المجتمع، ولن يكون إيجابيا فى أى تحد يواجه المجتمع.
الإسلام يطالب الفرد بأن يكون الوحدة الأساسية التى يقوم عليها المجتمع. ويطالب المجتمع بأن يتحرك بجميع أفراده ليواجه التحديات ويحقق الانتصارات ويصل إلى الأهداف. ويطالب قيادة المجتمع بأن ترسم الخطوات، وتحدد المواعيد، وتشخذ الهمم، وتعبئ الطاقات.
لتفهم خطورة مرض الفردية، سأعطيك مثالا سهلا: هناك مرض اسمه الروماتيد يصيب عظم الجسد فينهار العظم الذى يحمل الجسم، وسبب المرض أن الخلايا، التى من المفروض أنها تعمل سويا كفريق عمل واحد، وتموت خلية من أجل خلية جديدة، ولكن يحدث هذا المرض عندما تنظر كل خلية لنفسها بطمع وتنظر للخلية الأخرى على أنها منافسة لها، وليست متكاملة معها وترفض التعاون مع الخلية الأخرى ولا تتعايش معها، وينتهى التكامل وفريق العمل والتعايش، فيحدث الروماتويد ويعجز كل الجسم، هذا هو ما يحدث فى بلادنا الآن.
(٢) رمضان شهر يعلمك أنه لا للفردية، رمضان يعالج مرض الفردية لأن رمضان يعطينا مظهر الأسرة الواحدة، التى ينتظم فيها ملايين البشر، إنه يعطينا حالة نفسية واحدة للمجتمع، فالكل صائم، والكل يبتغى الثواب والرضا من الله، والكل يجتمع على الإفطار فى ساعة واحدة، فى دقيقة واحدة، إنها حالة نفسية مترابطة، إنه مظهر الأسرة الواحدة، وقلما انتظمت أسرة بين جدران بيت واحد على مثل هذا النظام الدقيق، الذى يجمعنا عليه رمضان، ولا يوجد لأمة أخرى فى العالم مثل هذه الفرصة المذكرة بوحدة المجتمع لمدة ثلاثين يوما.. إن سكون المجتمع كله لحظة المغرب لاجتماع الناس على طعام الإفطار ينبغى أن يترك فى نفوس الجميع إحساس الترابط، الذى هو من معانى رمضان الأساسية.
(٣) هناك رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم اسمه كعب بن مالك، تخلف عن النبى بلا عذر فى غزوة تبوك، فعندما عاد النبى من المعركة أمر الصحابة بمقاطعة كعب بن مالك، فلا كلام ولا تعامل معه لمدة خمسين يوما، وهى مدة الغزوة حتى يقول كعب بن مالك: «فضاقت على الأرض، فما هى بالأرض التى أعرفها، وضاقت على نفسى لقسوة الشعور بالوحدة».
وكنت أسأل نفسى، النبى رحمة للعالمين، فلماذا كان هذا العقاب القاسى لكعب بن مالك؟.. ثم أدركت أن قسوة العقاب لأنه فضل رغبته الشخصية على احتياجات المجتمع، وكأن معنى عقوبة النبى صلى الله عليه وسلم لكعب، أنت اخترت نفسك واخترت الفردية فابق إذن مع نفسك، فالمجتمع لا يريدك أيضا، فكان الجزاء من صنف العمل ولنفس المدة.
ونزلت آيات بعد انتهاء الـ ٥٠ يوما تعلن انتهاء العقوبة، كانت هذه الآيات فى سورة التوبة، ليبقى معنى أن التوبة ليست فقط من الذنوب والمعاصى، ولكن أيضا التوبة من الفردية ونسيان حق المجتمع. أنا أهدى قصة كعب بن مالك لكل إنسان فردى يدعى أنه يحب رسول الله، وهو لا يدرى أراض عنه رسول الله أم غاضب.