كان باراك أوباما معارضًا مبدئيًا لحرب العراق منذ بدايتها. ولكن عندما أصبح رئيسا فى يناير 2009، تسلم حربًا انتصرت بلاده فيها. وكان قد تحدد مصير القاعدة فى العراق، مدفوعة بهزيمة مذلة لصحوة الأنبار من العرب السنة المذلة الذين قاتلوا الأمريكيين الكفار إلى جانبهم. وحتى الميليشيات الشيعية منيت بهزيمة ملحوظة، من قبل قوات رئيس الوزراء الشيعى نورى المالكى، المدعومة من الولايات المتحدة؛ التى سحقت ميليشيات الصدر من البصرة الى مدينة الصدر.وقد هلك تنظيم القاعدة. وهناك رئيس وزراء شيعى ينتهج موقفًا وطنيًا حاسمًا. ويستعد السنة العراقيون للاندماج فى حكومة وطنية جديدة. والخسائر الامريكية فى أدنى مستوياتها فى الحرب كلها. وموعد الانتخابات يقترب. ولم يعد أمام أوباما سوى مهمة واحدة: بحث اتفاق بشأن وضع القوات لتعزيز هذه المكاسب، وخلق شراكة استراتيجية مع الديمقراطية الوحيدة فى العالم العربى. وقد أضاع ذلك، فقد انهارت المفاوضات أخيرا فى الشهر الماضى. وليس هناك اتفاق ولا شراكة. وبحلول آخر ديسمبر، سيتم إنهاء الوجود الأمريكى فى العراق.
<<<
ولم يداهم الموعد النهائى أوباما خلسة. فقد كان لديه ثلاث سنوات للترتيب للأمر. ويعرف كل من شارك فى المباحثات من العراقيين والأمريكيين، أن اتفاق عام 2008 بشأن وضع القوات، الذى دعا للانسحاب الأمريكى الكامل، كان المقصود إعادة التفاوض بشأنه. وكان لجميع الأحزاب الكبرى باستثناء حركة الصدر مصلحة فى بقاء بعض القوات الأمريكية من أجل الاستقرار، على غرار نشر القوات بعد الحرب فى اليابان وألمانيا وكوريا.
وخلال ثلاث سنوات، وقع فشلان ذريعان؛ الأول هو عجز الإدارة فى ذروة ارتفاع النفوذ الأمريكى فى مرحلة ما بعد الحرب الأمريكية عن التوصل الى ائتلاف وسطى وطنى تحكمه التكتلات الكبرى لشيعيى (المالكى)، والسنى (إياد علاوى)، والكردى التى فازت بأغلبية كبيرة (69 ٪) من المقاعد فى انتخابات عام 2010. قد أوكل الأمر لبايدن، نائب الرئيس، الذى فشل تمامًا. وانتهى الحال بالحكومة إلى أن يديرها تحالف طائفى ضيق، يحكم توازن القوى فيه تيار الصدر الصغير نسبيا (12 فى المائة) الموالى لإيران.
وكان الفشل الثانى لاتفاق وضع القوات نفسه. وأوصى القادة العسكريون الأمريكيون بعدد يقارب 20 ألف جندى، بما يقل عن عدد قواتنا فى كوريا البالغ 28 ألفًا و500 جندى وعدد قواتنا فى اليابان البالغ 40 ألفا وفى ألمانيا 54 ألفًا. ورفض الرئيس هذه المقترحات، واختار بدلا منها مستوى يتراوح بين ثلاثة آلاف وخمسة آلاف جندى.
وسوف يكون من شأن نشر هذا العدد الصغير بشكل مضح، أن يبدد طاقته فى حماية نفسه وهو كان مصير القوات المأساوية التى نشرت بلا مبرر فى لبنان 1982 من دون أى مقدرة حقيقية على تدريب العراقيين، وبناء قوات طيرانهم المجهزة أمريكيًا، والتوسط فى النزاعات العرقية (على سبيل المثال، كما فعلنا بنجاح، بين العرب والاكراد المحليين)، وتشغيل قواعد المراقبة وخدمات المشروعات الخاصة، وإقامة نوع من العلاقات بين العسكريين التى تدعم أقوى تحالفاتنا.
وكان اقتراح أوباما دليلا لا تخطئه العين على عدم الجدية. فقد صار واضحًا أنه يريد مجرد الخروج، تاركًا أى أحمق عراقى محافظ على توجهه الأمريكى عرضة للنفوذ الإيرانى، الذى صار الآن بلا معارضة ويمكن أن يكون قاتلا.
ووصلت الرسالة. فقد زار مسعود بارزانى، زعيم الأكراد الذى ظل من اشد حلفاء الولايات المتحدة على مدى عقدين، طهران ليركع أمام الرئيس محمود أحمدى نجاد وآية الله على خامنئى. ولم يكن ينبغى أن يحدث هذا فلا يجب أن نترك أصدقاءنا فى العراق ليبحثوا عن حماية إيرانية. وكان لدى أوباما ثلاث سنوات وانتصار حربى، وهو ما يتيح أمامه فرصة لإقامة تحالف استراتيجى دائم مع ثانى أهم قوة عربية.
وقد فشل، على الرغم من أنه لم يحاول بجدية شديدة. وكان المبرر هو رفض العراقيين منح الحصانة القانونية للقوات الأمريكية. لكن إدارة الرئيس جورج بوش واجهت المشكلة نفسها وتغلبت عليها. غير أن أوباما ليست لديه الرغبة. بل إنه يصور عملية الإخلاء على أنها نجاح، ووفاء بوعد الحملة. ولكن من المؤكد أن الالتزام بالدفاع عن أمن ومصالح الأمة أهم من تبرئة النفس. فقد عارض أوباما الحرب ، ولكن عندما أصبح القائد العام كان الثمن الباهظ من الدماء والأموال، تم دفعه بالفعل. وكان عليه التزام بالاستفادة من تلك التضحية، لتأمين المكاسب الاستراتيجية التى حققتها التضحية بالفعل.
لكنه لم يفعل، وفشل بالضبط فيما كانت هذه الإدارة تفاخر بالنجاح فيه: الدبلوماسية! وبعد سنوات من القوة الشرسة الخرقاء المزعومة، كان أوباما بصدد الدخول ليس فى عصر القوة الخشنة ولا القوة الناعمة، ولكن القوة الذكية. ثم تبين فى العراق عدم وجود قوة أصلا.. ومن الآن فصاعدًا، سوف نتساءل «من الذى أضاع العراق؟» وهو أمر واضح بالفعل، ولكن «لماذا؟»