يصبح أى مكان مقدسا بفعل الاعتقاد، بأنه كان موطن معجزة أو قوة خارقة (لورد، وجبل الهيكل)، أو لأنه كان يوما ما موطن نبل وتضحية عظيمين (جيتسبرج)، أو لأنه يضم دماء الشهداء ومعاناة الأبرياء التى لا توصف (أوشفيتز).
عندما نتكلم عن مقر مركز التجارة العالمى باعتباره أرضا مقدسة، فإننا نقصد أنه يخص أولئك الذين عانوا وماتوا هناك ــ وتلزمنا هذه الملكية، نحن الأحياء، بالحفاظ على كرامة المكان وذاكرته، وعدم السماح له بأن يصير فى طى النسيان أبدا، أو أن يجرى التقليل من قدره، أو الإساءة إليه.
لهذا هزم تحالف واسع كان يخشى الحط من قدر الحرب الأهلية الأمريكية، مشروع ديزنى 1993، بشأن بناء ساحة موضوعها أحد أحداث التاريخ الأمريكى، بالقرب من موطن معركة مانساس، (وكان هذا الطرح أكثر حكمة من تصوراتى. ففى ذلك الوقت، كنت من بلادة الذهن بحيث لم أقدر حجم الضرر الكامن فى المشروع). ولهذا السبب أزالت خدمة المتنزهات برج المشاهدة الذى بنى إلى جوار حدود جيتسبرج مباشرة. ولهذا السبب تصبح فكرة بناء برج للمشاهدة فى بيرل هاربر عدوانية ــ بالرغم من أن أحدا لن يعترض على إقامة مراكز ثقافية يابانية هناك.
ولذلك أمر البابا يوحنا بولس الثانى الراهبات الكرمليات بترك الدير الذى أسسه فى أوشفيتز. ولم يكن البابا آنذاك يقلل بأى حال من قيمة رسالتهن القلبية المتعلقة بالصلاة لأجل أرواح الموتى. لكنه كان يعلمهن درسا فى احترام الآخرين، مفاده أن هذا ليس مكانكم، بل هو يخص أناسا آخرين. وأيا ما كان نقاء صوتكم، فمن الأفضل أن تسمحوا للصمت بأن يسود.
بل إنه حتى عمدة نيويورك مايكل بلومبرج ــ الذى ندد بالمعارضين لإقامة مسجد ومركز إسلامى من 15 طابقا بالقرب من مقر مركز التجارة العالمى، معتبرا إياهم يسحقون حرية العقيدة ــ طالب منظمى بناء المسجد أن «يظهروا قدرا من الحساسية تجاه الموقف». لكنه كما لاحظ الكاتب الصحفى ريتش لورى بنفاذ بصيرة، ليس من شأن الحكومة أن تقول لدور العبادة كيف تسير أعمالها، أو تصيغ رسالتها، أو تظهر «حساسية خاصة» تجاه أى شخص أو قضية.
ومن ثم كان بلومبرج يخضع دون قصد لمطالب الذين كان يندد بهم بسبب معارضتهم لبناء المسجد، بمعنى أن مقر مركز التجارة هذا ليس كأى مكان آخر، ولذلك توجد معايير فريدة تحكم ما الذى يمكن عمله هناك.
ولعل طرح بلومبرج واضح: إذا كان الراديكاليون الإسلاميون ممن يلتمسون العذر أو يحتفون بالحادى عشر من سبتمبر سوف يسيطرون على المسجد، فإننى لن أؤيد تشييده.
لكن لم لا إذن؟ ففى ظل رؤية العمدة الفضفاضة حول حرية العقيدة، بأى حق نملى على أى مسجد الرسالة التى يقدمها؟ علاوة على ذلك، لا يوجد من الناحية العملية ضمان بأن ذلك لن يحدث فى المستقبل. فبما أن المؤسسات الدينية فى هذا البلد تتمتع بالاستقلالية، فمن الذى يحق له أن يقول إن هذا المسجد يجب ألا يعين يوما ما أنور العولقى المعلم الروحى لمطلق النار فى فورت هود، وللرجل الذى قام بمحاولة تفجير طائرة ركاب أمريكية فى الكريسماس، والإمام السابق لمسجد فيرجينيا الذى كان يتردد عليه اثنان من إرهابيى الحادى عشر من سبتمبر.
يعتبر وعظ العولقى فى فيرجينيا قضية أمنية. لكن وعظ العولقى فى مقر مركز التجارة هو انتهاك للمقدسات.
أم أن العمدة سوف يتدخل حال حدوث ذلك ويمارس حق النقض فى مواجهة رجال الدين فى المسجد ــ منتهكا التعديل الأول للدستور الأمريكى الذى يبالغ العمدة فى الزعم بأنه يريد حمايته من معارضى بناء المسجد؟
للموقع أهميته، خاصة الموقع محل النقاش؛ ذلك أن مقر برجى التجارة مكان شهد أعظم عملية قتل جماعية فى تاريخ الولايات المتحدة ــ ارتكبها مسلمون ذوو مبدأ إسلامى متشدد، قتلوا باسمه وماتوا فى سبيله.
وبالطبع يمثل هذا الفصيل أقلية بين المسلمين. فالإسلام لا يعنى بالفطرة التشدد الإسلامى، كما لا تعنى ألمانيا الحالية النازية. لكنه على الرغم من براءة الألمان المعاصرين من أفعال النازية، فإن ألمانيّا حسن النية لن يفكر فى إقامة مركز ثقافى ألمانى بالقرب من تريبلنكا مثلا.
ويدعوك ذلك للتساؤل حول مدى حسن النية الكامن وراء اقتراح الإمام فيصل عبدالرءوف. فهذا الرجل هو من وصف السياسة الأمريكية بأنها «شريك فى جريمة» الحادى عشر من سبتمبر، وهو الذى عندما سُئل أخيرا عما إذا كانت حماس منظمة إرهابية قال، «لست سياسيّا.. إن مسألة الإرهاب شديدة التعقيد».
تعد أمريكا بلدا حرا، حيث يمكنك البناء أيما تشاء ــ ولكن ليس فى أى مكان.
ولهذا السبب يوجد لدينا قوانين تحدد تقسيم العمران فى المناطق المختلفة. فلا يمكن إقامة متجر للخمر بالقرب من مدرسة، ولا مراكز تجارية تمثل انتهاكا للحساسيات المحلية. وإذا كان المنزل الذى تريد بناءه لا يتوافق مع قواعد المعمار فى المنطقة، فلن تستطيع البناء على الإطلاق.
وتعود هذه القيود إلى أسباب جمالية. بينما ترجع قيود أخرى إلى أسباب أعمق، تتعلق باللياقة العامة واحترام المقدسات. فلا يمكن إقامة برج تجارى فوق جيتسبرج، ولا دير عند أوشفيتز ــ ولا مسجد عند مقر مركز التجارة العالمى.
ابنوا هذا المسجد فى أى مكان، إلا هنا.
لقد عرض حاكم نيويورك المساعدة فى إيجاد أرض لبناء مسجد فى مكان آخر، والمسجد الذى يبنى جسور التواصل، الذى هو أمل عبدالرءوف الذى يصر عليه فى البناء، سوف يقبل العرض.