شهد الأسبوع التالى على الحادى عشر من سبتمبر 2012، حدثا جللا: انهيار بيان القاهرة، محور السياسة الخارجية للرئيس أوباما. فقد كان الغرض منها تعديل خطاب أمريكا بعد الحادى عشر من سبتمبر، بترسيخ التقارب مع العالم الإسلامى، بعد سلبيات حكم بوش المؤلمة (المزعومة).
وكان أوباما، الذى لا ينقصه الطموح ولا الثقة بالنفس، قد وعد المسلمين، فى خطابه بالقاهرة فى الرابع من يونيو 2009، بـ«بداية جديدة» و«احترام متبادل»، مدينا ضمنيا ممارسات الماضى التى كان يعوزها هذا الاحترام. وكان على أمريكا، برغم حذرها التى كانت عليه خلال السنوات العشرين الماضية، أن تنذر قوتها العسكرية ست مرات من أجل المسلمين المضطهدين، ثلاث منها لأسباب إنسانية بحتة (فى الصومال والبوسنة وكوسوفو) ولم يكن للولايات المتحدة مصلحة فيها.
لكن لا يهم. فقد بلغ الأمر بأوباما حد الاعتراض على هذه القوة العملاقة التى ضلت طريقها، حسب قوله، بعد الحادى عشر من سبتمبر، وأقامت معتقل جوانتانامو، ومارست التعذيب، وفرضت إرادتها بغطرسة ووقاحة.
كان عليه، أولا، التطهر بالاعتراف. وبعده، يأتى الشفاء. وهو ما يفسر لماذا كان مجرد انتخابه تثويرا للعلاقات، نظرا لحساسيات نشأته صرح مباهيا فى مقابلة معه فى 2007 «أختى نصف إندونيسية»، وأكد على تقديره الكبير للإسلام.
●●●
وكان من شأن سياسة التوافق والتنازلات التى اتبعها تعزيز المكاسب: يد ممدودة لملالى إيران، الاعتراف رسميا للمرة الأولى بدور الولايات المتحدة فى انقلاب 1953، الابتعاد المدروس والمذهل عن الثورة الخضراء؛ والانسحاب من العراق دون أثر للوجود أو النفوذ؛ جدول زمنى محدد للانسحاب من أفغانستان؛ إعادة سفيرنا إلى دمشق (مع كلمات رقيقة لبشار الأسد «الإصلاحى»، على حد تعبير وزيرة الخارجية)؛ ووضع مسافة بين الولايات المتحدة وإسرائيل عن عمد.
وكان الغرض من هذه الإجراءات تعزيز موقفنا فى المنطقة، واستعادة الولايات المتحدة مشاعر الود والاحترام والتعاون مجددا مع البلاد الإسلامية.
وقد مرت الآن ثلاث سنوات على خطاب القاهرة. وإذا نظرنا حولنا سنجد العالم الإسلامى يهتز بانفجارات معادية للأمركة. ومن تونس إلى لبنان، تضرم النار فى المدارس والمشروعات والبعثات الدبلوماسية الأمريكية. وقُتل السفير الأمريكى وثلاثة آخرين فى بنغازى. وارتفع علم السلفية الأسود، التى تعد القاعدة أبرز عناصرها، فوق سفاراتنا فى تونس ومصر واليمن والسودان.
وأنحت الإدارة، المترنحة والمضطربة، باللائمة على إعلان لفيلم مدته 14 دقيقة لم يشاهده أحد بل وقد لا يكون له وجود.
ما الذى يمكن أن تقوله غير ذلك؟ هل تصرح بأن فرضياتها المذهبية كانت بالغة السذاجة وأن سياساتها تؤثر سلبا على النفوذ الأمريكى؟
●●●
إن الاستفزازات الدينية لا حد لها. (ويمكنكم أن تسألوا سلمان رشدى). والاستياء من تدهور العالم الإسلامى على مدى خمسة قرون مستمر. والجديد ــ المتغير الحاسم ــ هو الصوت الذى لا تخطئه الأذن لقوة عظمى فى حالة تراجع. فمنذ أن سحب كيسنجر مصر من المعسكر السوفييتى إلى المعسكر الأمريكى فى أوائل السبعينيات، كانت الولايات المتحدة تسيطر على المنطقة. وهذا أمر انتهى الآن.
وقد أعلن أوباما وسط تصفيق حاد من جمهوره: «لقد حان الوقت لنهتم ببناء أمتنا هنا فى الداخل». وكان قد أعلن عن محور استراتيجى يمتد من الشرق الأوسط إلى منطقة الباسفيكى. وهو أمر ممكن بسبب «انحسار مد الحرب».
هراء. فمن المذابح فى نيجيريا إلى سوريا التى تحولت إلى مشرحة، العنف فى تزايد. ما انحسر هو أمريكا فى عهد اوباما.
ومن البديهى، فى الحنكة السياسية كما فى الفيزياء، لا تقبل الطبيعة بالفراغ. والإسلاميون يندفعون لملء هذا الفراغ وإعلان سطوتهم. وأصدقاء أمريكا ثكلى، ومرتبكون، ومشلولون.
وقد صعد الإسلاميون فى أرجاء شمال أفريقيا، من مالى إلى مصر. وتحدت إيران أكثر من مرة المطالب الأمريكية حول تخصيب اليورانيوم، ثم، وكتعبير عن ازدرائها لما تراه أمريكا، صرحت علنا بأن حراس الثورة موجودون فى سوريا. وتطالب روسيا أمريكا، بعد تسليح الأسد، بالبقاء بعيدا، بينما تلقى وزيرة الخارجية محاضرات مملة عن «وفاء» الأسد بـ«التزاماته» الدولية. وتتوسل دول الخليج إلى أمريكا للتصرف مع إيران؛ بينما يضغط اوباما بقوة.. لكن لكبح جماح إسرائيل.
●●●
إن أمريكا ذات السيادة تُخترق والمصالح الأمريكية تحترق. وما هو الرد الرسمى؟ الإدارة تستنكر المرة بعد الأخرى الإعلان عن الفيلم! وطُلب من جوجل «إعادة النظر» فى عرضه على يوتيوب. وأجرى نواب الشريف «تحقيقا طوعيا» فى منتصف الليل مع من يعتقد أنه صانع الفيلم. هذا فى بلاد (حماية الحريات).
ما الذى يمكن أن يفعله أوباما أيضا؟ فى اجتماعاتهم، لا يكف الديمقراطيون عن الثناء على أنفسهم على نجاحهم الخارجى الوحيد: قتل أسامة بن لادن. وبعدها بأسبوع، رفرف علم السلفيين فوق أربع سفارات أمريكية، وسط هتاف الجماهير، «يا اوباما، يا اوباما لسه فيه بليون أسامة».
سياسة خارجية وسط انهيار ملحمى. وبالمناسبة، طرد فلاديمير بوتين للتو الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية من روسيا. وهى رسالة شكر أخرى من مستفيد آخر من «إعادة انتخاب» أوباما النبيل مرة أخرى.