علب من البهارات مرصوصة على رف صغير فى المطبخ كفيلة بأن تشعرنى بأننى رميت مرساتى بعد سفر طويل. مهرجان الألوان من خلف زجاج الأوعية الصغيرة يستقبلنى ببشاشة وأكاد أن أسمع القرفة ترحب بى والقرنفل يأهل بحضورى. أفتح الأوانى الزجاجية الصغيرة وأستنشق رائحة العودة من كل علبة. هنا عشاء مع أصدقاء، هنا إفطار فى رمضان، من هذا الإناء تخرج رائحة لقاء مع الأحبة، ومن الآخر يأتينى حديث فى يوم خريفى منذ سنوات.
***
البهارات أسرار مرصوصة، فى كل إناء قصص لا تنتهى. كل قصة تتراقص داخل إنائها محشورة كالمارد فى الفانوس حتى أرفع عنها الغطاء فتخرج لتحوم حولى فى المطبخ. شبيك لبيك، أنا جوزة الطيب بين يديك. أفتح العلبة الأخرى فيطير منها مارد اليانسون، ثم أفتح فانوس مارد القرفة، وهكذا بلحظات يمتلئ الفضاء من حولى بأصدقاء لازمونى طوال سنواتى فى مطابخ عديدة حول العالم، إذ أننى أنقل عالم البهارات خاصتى معى إلى كل مكان. وبما أننى أنتقل من بلد إلى بلد بحكم عملى، فأنا آخذ الأوانى والروائح معى فى كل مرة.
***
هنا أنا فى القاهرة من جديد بعد غياب. أدخل إلى مطبخى متجهة مباشرة إلى رف البهارات وأفتح الأوعية كلها حتى أشعر أننى عدت. حفنة من القرنفل ترمينى فى حضن أمى ورشة كزبرة أسمع معها شهقة صديقتى عنايات حين علمتنى للمرة الأولى كيف أرمى الثوم والكزبرة فى آخر مرحلة طبخ الملوخية المصرية.
***
البهارات تعنى العودة، البيت، العائلة أو مكان أرمى فيه مرساة. فى كل سنوات ترحالى كنت أغلف كميات صغيرة من البهارات المختلفة بورق وأضعها بين ثيابى. كنت أعرف أن شعور الوحدة والبعد ينتظرنى فى ليلتى الأولى فى بيت جديد وأعرف أن رمى عودين من القرفة فى ماء تغلى كفيلة بأن تطبطب على روحى فى أيامى الأولى فى المكان الغريب.
***
كثيرا ما أقول للأصدقاء الجدد إننى ابنة البازار، سوق قديم حاراته ضيقة تلون أطرافه أكوام من البهارات والمكسرات. أنا ابنة سوق البزورية فى دمشق، تعود لى الحياة أمام جبل من الشطة المطحونة وترتد لى الروح على إيقاع بائع يطرطق ميزانه ليؤكد أنه لا يغش.
***
فى كل رحلة أضع فى حقيبة يدى كيس زعتر، هو تعويذتى وكف فاطمة خاصتى أواجه بها الحنين. الزعتر يحمينى من الوحدة، أو هكذا أقنعت نفسى على مدار السنوات. رائحة الزعتر هى بلاد الشام كلها فى لقمة واحدة. هى حقول فى فلسطين ومنقوشة فى شارع جانبى فى لبنان. رائحة الزعتر تعنى صباحا باردا فى دمشق أو حلب، وشطيرة ملفوفة بورق تنتظر أن يحملها والدى الطفل إلى المدرسة.
***
الزعتر يعنى العودة إلى البلاد، الرجوع إلى بيت فيه مقدار حياة كاملة من قصص رحل كثير من أصحابها وبقيت رائحة حكاياتهم فى أنفى. «حطى السبع بهارات فى الآخر وليس فى الأول، فهى تفقد كثيرا من أثرها إن تركتيها تغلى مع اللحم» تقول الجدة. قصص على أنغام القرنفل، حكايات تطير من حولى مع كل إناء أرفعه من على الرف وأقربه من وجهى.
***
أظن أن لكل منا حبلا للنجاة يساعده ألا يغرق. حبل النجاة خاصتى محبوك بروائح أجيال متتالية وضعت الطبخ فى مركز حياتها وعمل رجالها فى التجارة. طريق الحرير وخط الحديد الذى يمتد من الحجاز إلى فلسطين، وحكاية تاجر دمشقى تزوجت أخته تاجرا من نابلس فانتقلت إلى هناك ونقلت معها قطعة من دمشق. هذه قصة حقيقية أسمعها من أهل نابلس حين يرددون أن كثيرات من الجدات فى نابلس أصلهن من دمشق!
***
أتخيل صبية تبدأ حياتها الجديدة فى نابلس. تفتح حقائب جهازها وتخرج زجاجة فيها ماء الزهر قطرته فى بيتها فى الشام قطرة بعد قطرة. ترش قطرات منها على الوسادة فوق سرير الزوجية الجديد كما أوصتها أمها. تدخل المطبخ وتبدأ بترديد ألف باء كررتها أمها على مسامعها على مدى سنوات. ألف باء الحياة السعيدة، تغلى القهوة وتضع قطعة حلوى على طبق صغير من الخزف الفلسطينى. ها هى دمشق قد تزوجت نابلس على إيقاع صنع القهوة بحب الهال.
***
البهارات أسرار تهمس فى أذنى ولا يسمعها غيرى. أغلق الأوانى الصغيرة وأعيد رصها على الرف فى مطبخى. أخذت حاجتى من العودة فى عدة أنفاس أعادت لى حيوات كثيرة فى ثوانٍ معدودة. أنفاس ترد لى وتحكى لى قصصا حدثت فى غيابى. كيف تعيش شعوب دون سحر البهارات؟ من أين ينسج الناس قصصهم إن لم ينسجوها من الأحمر والأصفر والبرتقالى؟ أم تراها قصصا باهتة بالمقارنة من دفء الألوان من حولى رغم وحشية الأحداث؟
***
قصصى ملونة بألوان السبع بهارات وبكلمات بائع فى سوق البزورية فى دمشق: حياتى تنبض على حس مدينة قديمة تستيقظ على رائحة الزعتر فى الصباح الباكر. البهارات تعنى العودة إلى البلاد، لذا ففى كل انتقال أغلف حفنة قرفة وحفنة قرنفل وحفنات من الزعتر وأضعها فى حقيبتى لتكون مرساتى حيث أنا، أستنشقها فى لحظة الوحدة فأعود إلى البيت. حفنة من البهارات تعنى العودة.
كاتبة سورية