نشر موقع 180 مقالا للكاتب سميح صعب، تحدث فيه عن دوافع اختيار فلاديمير بوتين للدول الخليجية، الإمارات والسعودية، فى الجولة الخارجية الأخيرة له. كما تناول كيفية استفادة الرئيس الروسى من التطورات فى أوكرانيا وغزة.. نعرض من المقال ما يلى.بمواكبة أربع مقاتلات من طراز «سوخوى ــ 35 إس»، اختار الرئيس الروسى فلاديمير بوتين لجولته الخليجية التى شملت الإمارات والسعودية، توقيتا زاخرا بدلالاته وخلفياته. من المرحلة المفصلية التى يمر بها النزاع الأوكرانى، إلى الحرب الإسرائيلية على غزة والرغبة الروسية فى استعادة موسكو دور الوسيط المقبول من جميع الأطراف فى الشرق الأوسط.
كان للحياد الخليجى حيال النزاع الروسى ــ الأوكرانى، أثر إيجابى على الاقتصاد الروسى الذى كان فى حاجة إلى استقرار أسعار النفط فى زمن الحرب. ولم تلق المناشدات الأمريكية لرفع مستوى الإنتاج بهدف دفع الأسعار نزولا، استجابة من تحالف «أوبيك+» الكارتل الذى تنتج الدول الأعضاء فيه 60 فى المائة من النفط العالمى.
التقت المصلحة الروسية والخليجية على الحفاظ على استقرار السوق. وزار الرئيس الأمريكى جو بايدن السعودية فى يوليو 2022، أملا فى إقناع ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان، برفع الإنتاج لتعويض النقص فى الأسواق الأوروبية التى حظرت استيراد النفط والغاز الروسيين، من أجل حرمان الكرملين من مصدر رئيسى من مصادر تمويل الآلة العسكرية فى أوكرانيا، لكن بايدن أخفق فى تلك المهمة. استلزم الأمر اللجوء إلى الاحتياط الاستراتيجى الأمريكى لتلبية حاجات الشركاء الأوروبيين.
حافظت «أوبيك+» على تماسكها بقيادة السعودية وروسيا. وما أن عمد الاتحاد الأوروبى ودول حليفة لواشنطن فى الشتاء الماضى، إلى فرض سقف 60 دولارا لسعر النفط الروسى، حتى اتخذت الرياض وموسكو وأعضاء آخرون فى «أوبيك+» قرارات بخفض طوعى للإنتاج. وإلى الآن، لا تزال الخفوضات الطوعية تلعب دورا مهما فى الحفاظ على استقرار أسعار النفط والحئول دون هبوطه إلى ما دون الـ60 دولارا.
ربما كانت هذه التفاصيل ضرورية لتبيان الخلفية التى دفعت فلاديمير بوتين، من بعد الصين وإيران ودول فى الاتحاد السوفيتى السابق، إلى اختيار الإمارات والسعودية فى الجولة الخارجية الأخيرة له.
يمكن تلمس الأسباب التى دفعته إلى زيارة السعودية فى أسواق النفط، بينما الإمارات هى الشريك التجارى الأول لروسيا فى الشرق الأوسط، وزاد التبادل التجارى بين البلدين بنسبة 68 فى المائة العام الماضى. وعمدت الولايات المتحدة الشهر الماضى إلى فرض عقوبات على 3 شركات للنقل البحرى تتخذ من الإمارات مقرا لها، بعد اتهامها ببيع النفط الروسى بأسعار تفوق الـ60 دولارا.
معطى آخر، يقف خلف تحرك بوتين نحو الخليج وهو حمل رسالة تطمين للإمارات والسعودية، حيال التنامى المتسارع للعلاقات الاقتصادية والعسكرية بين روسيا وإيران. وفى اليوم التالى للجولة الخليجية، استقبل بوتين الرئيس الإيرانى إبراهيم رئيسى فى الكرملين.
• • •
لا يغيب أيضا عن دوافع الجولة الخليجية، الحرب الدائرة فى غزة. منذ انشغال روسيا بالحرب فى أوكرانيا، شهد الدور الروسى تراجعا ملحوظا باستثناء بعض الطلعات الجوية فى سوريا لقصف مواقع لتنظيمى «الدولة الإسلامية» (داعش) و«جبهة النصرة» ردا على تصعيد التنظيمين ضد الجيش السورى. و«الاحتكاكات» مع المسيرات الأمريكية كانت امتدادا للتوتر الروسى ــ الأمريكى فى أوكرانيا.
ومنذ اليوم الأول لحرب غزة، وضعها الكرملين فى سياق فشل السياسة الأمريكية فى المنطقة. وموسكو هى عضو فى اللجنة الرباعية التى كانت تشرف على المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. لكن واشنطن بعد ذلك تجاهلت دور اللجنة وتفردت هى بالوساطة بين الجانبين. والموقف الروسى من النزاع الفلسطينى ــ الإسرائيلى أقرب إلى موقف الدول العربية التى تدعو إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية. كما أن روسيا استقبلت وفدين من حماس فى الأشهر الأخيرة، فى حين أنها على تواصل دائم مع إسرائيل. ويمكن لروسيا البناء على الاستياء العربى المتزايد حيال الولايات المتحدة بسبب دعمها المطلق لإسرائيل ورفضها حتى الآن تبنى الدعوة إلى وقف إطلاق النار فى مجلس الأمن الدولى.. والحفاوة التى استقبل بها بوتين فى أبوظبى والرياض هى بمثابة رسالة تعبر عن هذا الاستياء.
• • •
على الضفة الأوروبية، تعانى الجبهة الروسية ــ الأوكرانية من جمود باعتراف رئيس الأركان الأوكرانى الجنرال فاليرى زالوجنى الذى يعتبر مهندس التصدى للهجوم الروسى منذ بداياته. لا يهم ما يقوله الرئيس فولوديمير زيلينسكى عندما يتحدث الجيش نفسه عن «الطريق المسدود».
ترافق ذلك، مع احتدام الخلاف السياسى داخل الولايات المتحدة قبل أقل من عام من الانتخابات الرئاسية. جو بايدن ينتهز حرب غزة كى يربط بين نزاعى الشرق الأوسط وأوروبا، قائلا إنه لن يسمح «لبوتين وحماس بالانتصار». لكن رؤية البيت الأبيض تختلف إلى حد كبير مع رؤية الحزب الجمهورى للنزاعات الدولية.
وأخفق بايدن فى ابتزاز الكونجرس من طريق ربط مساعدات طارئة بقيمة 106 مليارات دولار لكل من أوكرانيا وإسرائيل وتايوان وتعزيز الحدود مع المكسيك فى وجه الهجرة غير الشرعية.
مجلس النواب الذى يسيطر عليه الحزب الجمهورى فصل بين مساعدة إسرائيل البالغة 14 مليار دولار ومساعدة أوكرانيا البالغة 61 مليار دولار. أقر الأولى ورفض الثانية. وفى مجلس الشيوخ حصل الأمر نفسه، إذ رفض الأعضاء الجمهوريون إقرار مساعدة أوكرانيا قبل التزام واضح من البيت الأبيض بإدخال تعديلات أساسية على سياسته حيال الهجرة غير الشرعية من المكسيك. ولم تجد تحذيرات بايدن من المخاطر المترتبة على تأخير المساعدة لأوكرانيا بقوله إن بوتين يمكن أن يجتاح بعد كييف دولا أطلسية!
أوكرانيا فى مأزق والحلفاء الغربيون على عتبة مقاربة جديدة حيال النزاع، تعبر عن القلق من حرب استنزاف طويلة. واستنادا إلى معهد «كيل» الألمانى للبحوث، فإن وتيرة الوعود الغربية بمنح أوكرانيا مساعدات جديدة تباطأت بشكل ملحوظ على خلفية خلافات سياسية فى أوروبا والولايات المتحدة.
التباطؤ فى المساعدات الغربية، تتوقع مجلة «الإيكونوميست» أن ينعكس على القوة النارية للجيش الأوكرانى الذى كان يستخدم ما يصل إلى 250 ألف قذيفة من عيار 155 ملم خلال الصيف إلى أقل من 40 ألفا فى الوقت الحاضر. وفى المقابل، عززت روسيا ترسانتها من القذائف بواسطة كوريا الشمالية. ولن يكون فى إمكان الاتحاد الأوروبى الوفاء بتعهده تسليم كييف مليون قذيفة بحلول مارس المقبل.
هذا الواقع السياسى ــ الميدانى فى أوكرانيا، أراح روسيا وجعلها تنتقل إلى موقع الهجوم فى كوبيانسك وأفدييفكا على الجبهة الشرقية. وتحول الجيش الأوكرانى إلى الدفاع عوض الهجوم فى الآونة الأخيرة.
• • •
يهم فلاديمير بوتين الآن، أن يثبت قدرته على كسر طوق العزلة الذى حاولت واشنطن فرضه عليه، خصوصا بعد صدور مذكرة اعتقال بحقه عن المحكمة الجنائية الدولية فى أوائل العام الحالى على خلفية نقل أطفال أوكرانيين إلى روسيا. وبحسب الزميل الأول فى مركز كارنيجى روسيا وأوراسيا، أندريه كوليسنيكوف، فإن زيارة بوتين للخليج هى «للتأكيد للجمهور، أن روسيا ليست معزولة عن العالم الخارجى».
هذه التطورات فى أوكرانيا وغزة، جعلت الخشية تسود للمرة الأولى، فى الولايات المتحدة وأوروبا، من أن بوتين قد يربح الحرب مع أوكرانيا. هذا المناخ شجع بوتين على الإعلان يوم الجمعة الماضى، عن ترشحه لولاية رئاسية جديدة فى العام 2024.
النص الأصلي