فى هذه السلسلة من المقالات بعنوان «أمام المرآة»، أضع نفسى مع صانع القرار أمام مرآة النقد الذاتى. وإن كنت لا أشاركه فى عملية اتخاذ القرار إلا أننى أشاركه فى حب هذا الوطن الغالى، الذى خرجت من قلب عاصمته النابض، بعد تخرجى فى الجامعة منذ أكثر من ثلاثين عامًا. وعملت فى قطاعات تعتبر مقياسًا لإيقاع الاقتصاد المصرى حتى استقرارى حاليًا فى مجال إدارة صناديق الاستثمار الدولية من أهم عواصم المال والاقتصاد الأوروبية، ولكن يظل قلبى وعقلى ساكنين بمصر، أتحين فرص الاستثمار بها بفارغ الصبر، متمنيًا لها الرفعة والتقدم والرخاء، الذين لن يتحققوا دون شجاعة النقد البناء من كل غيور على وطنه. هى مجموعة مقالات ترددت كثيرًا قبل كتابتها. ففى بعضها سيظننى القارئ منتقدًا وفى مقالات أخرى سيظننى مدافعًا عن الأداء الحكومى بينما الغرض الحقيقى من هذه المقالات هو التحليل وإلقاء الضوء على ما أراه فرصًا وتحديات.
فأرجو أن يتسع صدر الجميع لرؤيتى والتى قد تصيب أو تخطئ ولكنها فى كل الأحوال تأتى من منطلق وطنى خالص.
الاستثمار الأجنبى له أنواع. منها الاستثمار فى المحافظ المالية portfolio flows وهو ما يسمى بالأموال الساخنة، ومنها الاستثمار بنى اللون brownfield وهو الاستثمار فى منشآت أو شركات موجودة بالفعل، ومنها الاستثمار أخضر اللون greenfield وهو الاستثمار فى منشآت أو مشاريع جديدة. يسمى النوعان الأخيران بالاستثمار الأجنبى المباشر Foreign Direct Investment وهو نوع الاستثمار الأفضل للدولة، فهو الاستثمار الذى يعنى أن مستثمرًا أجنبيًا قد قام بتحويل أموال بالعملة الأجنبية على أمل استردادها بأرباحها خلال عدد من السنوات. فى مصر نصنف هذا النوع من الاستثمار إلى نوعين: الاستثمار الخليجى والاستثمار غير الخليجى، مثل التركى والصينى والهندى والغربى… إلخ. وموضوع مقالى هنا هو الاستثمار غير الخليجى وبالتحديد الاستثمار الغربى.
وقعت مثل كثيرين غيرى لسنوات عديدة فى خطأ تحليل أثر القرارات الحكومية على إمكانية جذب الاستثمار المباشر من الدول الغربية. وكدت أجن وأنا أشهد قرارًا تلو الآخر من القرارات الطاردة لهذا النوع من المستثمرين. بل أكثر من ذلك، منذ عدة سنوات كتبت مقالاً عن أهمية مراعاة المستثمر المحلى إذ إنه عنصر الجذب الأول للمستثمر الأجنبى. فإذا بى أرى المستثمر المحلى نفسه يهرب باستثماراته وبشركاته إلى دول الخليج! حتى توصلت إلى قناعة معينة، ومنذ توصلى إليها وأنا أعيش حياة يسودها السلام النفسى: وهى ببساطة أن مصر لا تريد مستثمرين أجانب. فإذا نظرت من هذا المنظور -الذى يبدو غريبا- إلى قرارات الحكومة فستجد أن معظم تلك القرارات تتحول فجأة لحيز المعقول والمنطقى.
طبقًا لآخر تصنيف من الوال ستريت جورنال، تحتل مصر المركز ١٥١ من بين ١٧٧ دولة فى مؤشر الاقتصاد الحر. يمنح هذا المؤشر ترتيبًا للدول طبقًا لقدرة اقتصادها على خلق وجذب الفرص عن طريق قياس عدة عناصر. وهنا يجب أن ندرك أن أى إجراء مهما كان صغيرًا من شأنه أن يتراكم مع غيره ليسبب تراجعًا فى ترتيب مصر فى مؤشرات سهولة أداء الأعمال. وقد ينتج عن قرار مكاسب قصيرة المدى ضيقة التأثير ولكن ينتج عنه آثار سلبية أعمق على المدى المتوسط والبعيد. أمام المستثمر الأجنبى اليوم العديد من الدول التى يمكنه أن يمركز فيها استثماراته، فلماذا يتوجه إلى مصر بتعقيداتها التى تزداد باستمرار بدلاً من التوجه إلى المغرب (المركز ٩٧) أو فيتنام (المركز ٨٤) أو حتى إلى رواندا (المركز ١٠٥) ؟! ولماذا تميل الدولة إلى زيادة التعقيدات بحثًا عن زيادة قليلة فى الرسوم بدلاً من البحث عن فتح المجال العام الذى تبحث عنه الشركات العالمية؟.
بالتأكيد مصر ترحب بالاستثمار فى قطاعات معينة جاذبة لمستثمرين بعينهم. منها الاستثمار فى القطاع العقارى الجاذب للمستثمرين العرب، ومنها أيضا الاستثمار فى مشاريع الطاقة والبترول الجاذبة للشركات المتخصصة فى هذا المجال، وأيضا الاستثمار فى مناطق خاصة مثل المناطق الصناعية الصينية والتى تتم فى حيز ضيق نسبيًا. وبالتأكيد هناك توجه للتغيير مع الحكومة الجديدة الحالية والتى بها أكبر عدد من المتخصصين فى مجالهم نراه منذ فترة. ولكن إلى أن يتم تحويل الكلام إلى أفعال وفتح المجال العام بحثًا عن تشجيع الاستثمار بدلاً من تعقيده فلا أظن أن قناعتى ستتغير.
ما هى آثار ذلك على المستثمر المحلى؟ معناه أن الاستثمار الصناعى لن يحقق جدواه؛ وبالطبع هناك استثناءات. والاستثمار الخدمى فى المطلق سيكون أكثر جدوى؛ وبالطبع هناك استثناءات أيضا. معناه أن مصر تحتاج إلى مهندسى ميكانيكا أقل وتحتاج خريجى سياحة وفنادق أكثر. معناه أن المستثمر المحلى عندما يدخل فى استثمار أو مغامرة مالية يحتاج أن يكون العائد أكبر من المعتاد بالمقارنة بدول أخرى فالمخاطر أعلى. بمعنى آخر احتمال «وقوع بلكونة» على رأس المستثمر فى مصر «بشكل رسمى» وهو يمشى فى الشارع، هو احتمال حدوثه أكبر بكثير من إمكانية حدوثه فى المغرب أو فيتنام. معناه أن ننسى حلم التصدير فنحن نبتعد عن المنافسة ونركز على ما نجيده (غصبا عن خطايانا) مثل السياحة وتصدير الاستثمار العقارى.