كانت السيارة تقل أسرة مكونة من ستة أفراد يقودها رب الأسرة، فيها الزوجة والأم والأولاد، قطعت السيارة قرابة 700 كم من محافظة أسيوط متجهة للإسكندرية، لم يبق على وصولها سوى القليل.
مسافات طويلة قطعها رب الأسرة وهو يقود السيارة، رفض أن ينام قليلا فى الطريق بحجة أنه سينام فى البيت بالقرب من كفر الدوار، أخذته سنة من النوم فاختلت عجلة القيادة بيده واصطدم بمقطورة فمات الجميع سوى طفل صغير.
تناثرت الجثث فى الطريق، بعضها دخل فيه حديد السيارة، امتلأت الأرض بالدماء الزكية، ركضت الأسرة وهى فى أشد الكرب والحزن الذى يكاد يصعق الأنفس ويفجر الرءوس من الإسكندرية إلى كفر الدوار بكل وسائل المواصلات المتاحة، وكلهم يظن أنه فى كابوس ولا يريد أن يصدق الحقيقة المُرة حتى عاينوا الجثث الملقاة على الطريق أو المحشورة فى السيارات، وأجهزة الإنقاذ والمرور والمباحث والنيابة تعمل كلٌ فى تخصصه.
ما أطول هذا اليوم، وما أشق لحظاته التى تمر ببطء، ما أسوأ الإجراءات وأبطأها، إنها موت جديد يزيد المحنة ألما وقسوة، آه من دروس مثل هذه الواقعة على نفوس من عاين أى جزء منها، أسرة كاملة ضاعت، وأسر كاملة قريبة منها ستعيش فى ذكرى هذا اليوم البائس حتى نهاية العمر لا تكاد تنسى ألمه وحزنه ومشقته، وضع البيض فى سلة واحدة يتكرر من الصعايدة باستمرار سواء فى رحلات الذهاب والعودة من الأفراح أو الأعياد أو الجنازات.
ومنذ أيام تتكرر المأساة مع أسرة الصحفى باليوم السابع أ/علاء رضوان؛ حيث ركب عشرة من أسرته عائدين فى أمان الله من أسيوط إلى القاهرة بعد أن حضروا جنازة خالته فى ميكروباص عائد بهم فى أمان الله من أسيوط إلى القاهرة يسير بطريقة عادية، لا يسرع ولا يمر بين السيارات بطريقة الغرز ويسير فى طريق ذى اتجاهين، فلا مجال لصدام ولا حوادث، وإذا بالأرض تنشق فجأة عن سيارة نقل «تريلا» تسير فى الطريق المقابل، ينفجر إطارها الأمامى وتختل عجلة القيادة بيد سائقها وتتخطى الحاجز الأسمنتى الفاصل بين اتجاهى الطريق لتصطدم بالميكروباص الآمن وتسقط عليه مواد البناء التى تحملها.
اصطدام مروع «تريلا» ثقيلة سريعة مع مواد بناء ثقيلة تحطم الميكروباص وتنهى حياة عشرين شخصا فى لحظات، تتناثر جثتهم، تغمر الدماء كل شىء، وتحشر الجثث فى حديد هذه السيارات، تختلط الدماء الزكية بحديد الميكروباص مع الأسفلت مع مواد البناء.
بانوراما غاية فى الألم، فى لحظة واحدة تموت الحياة ويعشعش الموت، وتصعد الأرواح الزكية شهيدة إلى ربها «فصاحب الهدم شهيد» كما قال الرسول«ص»، وموتى حوادث السيارات والقطارات ينالهم وينال أسرهم من الكرب والمآسى أكثر ممن تهدمت عليهم منازلهم، فهم أولى بذلك المعنى، ولو أن السيارات والقطارات كانت موجودة أيام الرسول «ص» لعدهم منهم.
عشرون شهيدا منهم عشرة من أسرة الصحفى علاء رضوان حيث فقد معظم أسرته وأحبته.
آه من فراق الأحبة، آه من فراق حبيب فكيف بمن فقد عشرة من أغلى أحبته، وكيف بمن فقدهم مرة واحدة، وكيف بمن فقدهم بهذه الطريقة المأساوية، كرب وموت وألم ونيابة ومباحث، وتعرف على جثث، تصاريح من جهات كثيرة.
ماذا؟؟ ماتت أمى قرة عينى، وسكينة نفسى، وموتها وحدها يعنى موت الدنيا كلها، وفقدها يعنى أنه لا طعم للحياة بعدها.
وماذا أيضا ماتت خالتى أمى الثانية، توءم روحى وروح أمى، هى ملاذى وموطن سرى بعد أمى.
وماذا أيضا مات خالى «كمال عبدالحميد» سندى وعونى، كان مجرد وجود حذائه خارج الباب مصدرا للأمان والطمأنينة لأناس كثيرين منهم أنا، آه يا خالي,ى، ما أشد مصيبتى فيك وألمى لفراقك المفاجئ، حكمت فعدلت فتحولت جنازتك لفرح كبير، على مثلك فلتبكى البواكى، لله درك يا خالى.
هكذا أو قريبا من ذلك كتب أ/علاء رضوان الذى قال أيضا «وماذا أيضا ماتت زوجة خالى وابنته، هكذا ضاعت أسرة خالى».
وماذا أيضا ماتت زوجة ابن خالتى وولده، وماتت زوجة ابن خالى، 10 وفيات من أسرتى، يا الله.. فى حادث مفجع ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، «اللهم ألهمنا الصبر من عندك يا الله ربنا يجعلكم مع النبيين والصديقين والشهداء».
حوادث السيارات لا تعد ولا تحصى فى مصر وغيرها، ولم يقلل تمهيد وتحسين الطرق من معدلات الحوادث فما زال ضحايا الأسفلت ينزفون يوميا دماءهم ثم أموالهم وآلامهم ويفقدون معها آمالهم وأحلامهم.
كانت مصر الأولى عالميا فى عدد وفيات حوادث الطرق سنة 2016؛ حيث بلغ عدد القتلى والمصابين 25 ألفا و500 شخص ما بين قتيل ومصاب وبلغت الخسائر 30 مليار جنيه.
وفى 1918 وصل عدد الحوادث إلى 8500 حادث أما فى 2019 فقد بلغ عدد الحوادث فى ستة أشهر فقط 5220 حادثا أنتجت 1567 متوفيا 6046 مصابا وإتلاف 8335 مركبة.
«الموت مع خراب البيوت وإفلاسها هو عنوان هذه الحوادث»، أما الموت فأشد ما فيه الصدمة الكبرى وفجأة المصيبة، وما أدراكم ما فجأة المصيبة إنها تنزل كالصاعقة فوق رأس أسرة بكاملها تجرى فى الشوارع كالمجنونة كى تصل إلى مكان الحادث فتصعق مرة أخرى بهول المنظر الذى لن تنساه أبدا.
وإذا كان الرسول «ص» أمرنا بالصبر عند الصدمة الأولى فى الموت العادى فهذا أولى بكثير، لأنه صدمات وأهوال بعضها فوق بعض، تكاد تطمس على حكمة الحكيم وعقل العاقل.
وأطلق دوما ذلك على الصبر عند الصدمة الأولى «الصبر قصير المفعول» إذ إن هذه المحنة بالذات تحتاج لما يسمى بالصبر طويل المفعول إلى جوار قصير المفعول، فصاحب الميكروباص قد يموت ويفقد سيارته مصدر رزقه أو يسجن حتى لو لم يكن له ذنب.
فالأسرة تدخل من ابتلاء لآخر ومن نفق مظلم لآخر، ومن محنة لأكبر منها، كل ذلك يستلزم منها صبرا لا حدود له، صبرا طويلا، ولابد وأن يقف الجميع ليساعدوها فى تخطى تلك المحنة المركبة، فقد تكون هناك أقساط على السيارة أو يموت العائل، أو.. أو.. أما الركاب فحدث ولا حرج.
حوادث السيارات كلها محن، ولك أن تتأمل رقم خسائر حوادث السيارات فى مصر فى عام واحد مثلا سنة 2015 30 مليار جنيه، أكبر من خسائر أى حرب ماديا وبشريا.
قلبى مع علاء رضوان وأمثاله، ففقد الأصول والفروع والنظائر والأقارب فجأة كارثة مدوية، فمن يأتيه بمثلهم، ولا يعوضه عنهم ويسرى عنه سوى أنهم شهداء.
ولعل هذه الأسباب كلها توضح لنا السر فى قوله تعالى «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»، وقوله الرسول «ص» «مَا أُعْطِى أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» فالصبر عطاء جزيل من الصبور الشكور سبحانه.
الصبر مر كالصبر والعلقم، ولا يصل الإنسان إليه بسهولة ويسر، ولذلك تحدث الرسول «ص» عن كيفية الوصول إليه فقال فى حديثه التربوى الرائع «إنما الصبر بالتصبر» فمن تصنع الصبر وحاول التمسك به وجاهد نفسه فيه رزق الصبر، ومن ألف الصبر وصل إلى درجة الرضا، وإذا كان الصبر هو الجواد الموصل إلى الله، فإن الرضا أشبه بصاروخ يحملك فى الطريق إلى الله.
لا تعويضات لأرباب حوادث السيارات، ولا تأمين عليهم، ولا عزاء لهم الكل ينصرف عنهم بعد أسابيع ليترك اليتامى والأرامل والحزانى يواجهون مصيرهم المؤلم، فهل من حل للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية التى تعقب هذه الحوادث.