أحب كثيرا كلمتى «وادينا الطيب» للشاعر الكبير صلاح عبدالصبور؛ لأن جريان المياه فى الوادى لآلاف السنين وربما الملايين منها لم يترك أثره على جغرافيته فقط ولكنه أدى إلى تجمع مياه جوفية سمحت بدعم أنواع من النباتات البرية والتى جذبت العديد من الكائنات الأخرى، كما استخدمها الإنسان لعدة أغراض منها السفر والتنقل باستخدام الحيوانات ولمسافات طويلة نتيجة وجود الآبار التى توفر مياها مقبولة للشرب للإنسان والحيوان، وإذا لم يكن ذلك معنى الطيبة فما معناها إذا؟
يصل وادى النيل الطيب ومنظومة الوديان الجافة التى تصل مياه الأمطار الساقطة فى أعالى النيل بالبحر المتوسط. تقع العديد من الوديان التى تصل مياه الأمطار أيضا بالمتوسط ربما أشهرها وادى العريش فى سيناء، والوادى الذى ينتهى بمنطقة عجيبة غرب مدينة مرسى مطروح وهناك أيضا العديد من الوديان تجمع مياه الأمطار وتصلها بالبحر الأحمر مثل وادى قرف الذى بجواره أقام المصريون القدماء ميناء لجلب معدن المنجنيز ومعادن أخرى من سيناء استخدمت فى العديد من الأغراض منها الأدوات الخاصة بتقطيع أحجار الأهرامات، ومازالت الحفريات قائمة وتكشف لنا الجديد كل فترة.
أما الوديان التى تنتهى فى البحر الأحمر فحدث عنها وعن جمالها، منهم من أعتبرهم بمثابة أصدقائى مثل وادى القصير القديم ووادى العمبجى الذى يرتبط بوادى الحمامات المنتهى فى وادى النيل، ويكونان معا أحد أشهر طرق الوصل التاريخية بين وادى النيل الطيب والبحر الأحمر ومنهم العديد الذى ما زلت أتطلع للتعرف عليه عن قرب.
ولكن ماذا فعلنا فى وادينا الطيب الجميل هل حافظنا عليه وتعاملنا معه باحترام أم فعلنا أشياء أخرى؟. منذ شهور عدة ولأنه فى طريقى فى أحيان كثيرة رأيت هيكلا لمبنى تحت الإنشاء وبجواره لافتة تشير إلى أنه حاصل على ترخيص من وزارة الرى لإنشاء مقهى على ضفاف وادى دجلة فى المنطقة الواقعة بالقرب من مدخل المعادى الجنوبى. وفى الأسابيع التى تلت ذلك فقدت القدرة على عد المقاهى المجاورة للمقهى الأول وكأن وادى دجلة الجاف أصبح مملوءا بالقهوة والشاى يجريان تحت أرجل مريدى تلك المقاهى لتمتد إليها أيديهم ويغترفوا منها ما يريدون وقتما يشاءون. ودهشت لما يحدث فى وادى دجلة الذى يعتبر الجزء الأكبر منه محمية طبيعية طبقا للقانون وفى الحقيقة لا أدرى كيف قرر المسئولون عن المحميات الطبيعية خاصة فى وادى دجلة قصره على المنطقة التى تبدأ من البوابة الحجرية، بالرغم من أن الوادى منظومة طبيعية تصل إلى مسطح مائى كبير وهو هنا النهر. وأستغرب كثيرا من استبعاد باقى الوادى وحتى التقائه بالنيل من المحمية لأن هذا يتناقض مع الهدف الرئيسى من عمل المحميات وهو الحفاظ على التنوع الطبيعى.
صادفت فى إحدى زياراتى مع طلبتى لمنطقة التقاء وادى دجلة بالنيل طالبة دكتوراه تعمل على توثيق ودراسة النباتات الموجودة فى المنطقة. ولاشك أن تلك الوديان بها من التنوع الطبيعى، سواء النباتى أو الحيوانى، ما يجب الاهتمام بدراسته وتوثيقه تمهيدا لإعادة تأهيلها ودعم التنوع الطبيعى بها لمحاولة إنقاذها من وطأة النشاط البشرى المتزايد بها. وهذه الوديان التى تجرى بها المياه سواء بصورة مستمرة أو تبعا لإيقاعات زمنية متفاوتة هى مواقع الحضارات الإنسانية الأولى؛ تشكل منظومة مركبة وكل جزء أو وادٍ فيها صغيرا كان أم كبيرا له أهمية كبرى فى تلك المنظومة، وهذه المعرفة عن المنظومات الحيوية ودورها فى إبقائنا أحياء تستوجب تعاملا يليق بها.
•••
كنت أتصور أن عاصفة التنين التى وقعت فى مارس 2020 قد أعادت لوعينا خاصة سكان القاهرة دور وأهمية مخرات السيول أو الأنهار الجافة كما يطلق عليها أيضا. وأظهرت تلك العاصفة على امتداد مناطق عدة فى مصر كيف أن الوديان الجافة هى جزء هام من المنظومة المائية الطبيعية، وأظهرت بوضوح أن الاستخفاف بها من قبل المواطنين أو الدولة من الممكن أن يكلف أرواحا بالإضافة لخسائر مادية كبيرة.
الاهتمام بوادى دجلة يتطلب أيضا الاهتمام بالوديان الأخرى، وأقربها له وادى حوف الذى يقع على بعد كيلومترات قليلة من جنوبه. ولا أنسى أنى فى وقت عاصفة التنين تابعت المياه وهى تنساب فى وادى حوف بجنوب القاهرة وصورت الماء ينساب عبر طول المخر وحتى التقائه بالنيل. ورأيت المياه المتجمعة فى مخر السيل جنوب مدينة 15 مايو والذى أدى للأسف لوفيات وبعض الإصابات. كما رأيت تجمعات المياه التى استمرت لأكثر من أسبوع فى وديان أخرى فى منطقة حلوان.
يخترق وادى حوف عدة بيئات طبيعية وعمرانية ابتداء من تلال المقطم فى الشرق وحتى نهر النيل. هناك القسم الشرقى منه ومعظمه صحراء فى سفح التلال ثم يمر بمناطق سكنية أولها مخطط والباقى غير مخطط. ونتيجة لتعديات المساكن على مسار الوادى فى بعض مناطقه قامت الدولة فى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى بعمل مسار بديل من الخرسانة المسلحة، وللأسف تتراكم القمامة به فى مناطق عديدة، وفى بعض المناطق الأخرى تحتل بعض المقاهى والأنشطة الأخرى حرم الوادى. وفى المنطقة القريبة من النيل وفى تطور قريب زمنيا يمكننا الآن رؤية ناتج الصرف الصحى للمساكن المجاورة وقد صار هو المياه التى تركد فيه وتصدر منها الروائح الصادمة طبعا.
•••
أعرف أنه يوجد مركز بحثى تابع لوزارة الرى يتخصص فى دراسة مخرات السيول أو الوديان الجافة وأتمنى أن يتم دعمه بباحثين فى البيئة الطبيعية بمكوناتها المختلفة؛ سواء من النباتات أو الحيوانات أو التربة، وأن تترابط منظومة البحث والدراسة لتغطى المنظومة الطبيعية للوديان خاصة وأنها تزداد أهميتها فى مناطق الصحراء الساحلية للبحر الأحمر والساحل الشمالى الغربى وشمال وجنوب سيناء.
لا أدرى لماذا تنحصر تصورات العوائد والفوائد من المناطق الطبيعية بصفة عامة فى مصر والمحميات منها بصفة خاصة فى العائد المادى القريب والمباشر؟. أتمنى أن يطّلع المسئولون على تقرير «اقتصاديات التنوع الطبيعى» والمعروف بتقرير داسجوبتا والصادر فى بريطانيا عام 2020 والذى يخلص إلى أن العائد من الاستثمار فى رأس المال الطبيعى يقترب من ثلاثة أضعاف رأس المال المنتج وهو ما أعتقد أنه سيغير بصورة كبيرة من طريقة تعاملنا مع تلك البيئات الطبيعية الهامة للغاية، والتى نعرف أيضا أن طريقة التعامل الحساسة تلك هى مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتعامل مع تحديات التغير المناخى والذى تستضيف مصر مؤتمره الأممى فى نهاية هذا العام.
لا نأمل فقط فى عودة وادينا الطيب لسابق عهده ولكننا نعمل بجد منذ سنوات بصورة حثيثة وندرك كم تستلزم تلك العودة من مجهودات على مستويات متعددة ونحن مدفوعون فى ذلك بمعرفتنا أنه ليس لدينا خيار آخر سوى استعادة الطيبة لوادينا إن أردنا لأنفسنا وأولادنا وأحفادنا وأيضا للناس سواء جيراننا الأقرب أم الأبعد حياة بها الحد الأدنى من الطبيعة المزدهرة التى تدعم حياة طيبة.
• رسم للباحثة أسماء مكاوى يوضح مقترحا أوليا للتعامل مع وادى حوف من رسالة الماجستير الخاصة بها 2018