أما وقد هدأ غبار الانتخابات الرئاسية فى فرنسا، ولم تنجح تنبؤات البعض بانتخاب «ترامب فرنسى» فى شخصية مارين لوبين زعيمة الجبهة الوطنية، وعشية الانتخابات البرلمانية ستجد فرنسا ذاتها أمام واحد من خيارين أساسيين: إما انتصار حزب الجمهوريين وبالتالى العودة إلى نظام المساكنة السياسية مع حزب الرئيس الذى صار اسمه «الجمهورية إلى الأمام»، أو نجاح الرئيس المنتخب فى تكوين «الأكثرية الجمهورية»، مثلما فعل الرئيس الأسبق فاليرى جيسكار ديستان الذى جاء من حزب صغير. وهذا ليس بمستبعد، خاصة أن الرئيس المنتخب يتمتع بمواقف وسطية وبراجماتية ويحظى بدعم من أوساط اليمين الشيراكى التقليدى، ومن أبرز داعميه رئيس الوزراء الأسبق «دومينيك دو فيلبان»، إلى جانب الدعم الذى يحظى به من الكثيرين فى أوساط الحزب الاشتراكى. هنالك العديد من الدروس والعبر لفرنسا ولأوروبا وللعالم من هذا الانتخاب:
أولا: إذا انتصرت الشعبوية فى الولايات المتحدة وفى بريطانيا عبر البريكست، وللتذكير فإن الانتصار البريطانى كان نصف انتصار فى دولة أطلسية النزعة والتوجه أساسا، فإنه فى القارة القديمة هزمت الشعبوية فى كل من هولندا والنمسا والآن فى فرنسا. كل ذلك لا يعنى أن الشعبوية قد انتهت، خاصة مع التأييد المرتفع (33.9) الذى حصلت عليه مارين لوبين. إن الشعبوية ما زالت قوية تقتات على تراكم الأزمات وتعمّقها. والجدير بالذكر أن حوالى 25.2 بالمئة من الناخبين الفرنسيين امتنعوا عن التصويت، كما أن هنالك حوالى أربعة ملايين ناخبا أسقطوا ورقة بيضاء أو اعتبرت أوراقهم ملغاة. مما يعنى أن هنالك ٣٢ بالمئة من المقترعين لم يشاركوا فى الانتخابات. وهذه نسبة تعتبر عالية وذات دلالة كبيرة.
ثانيا: كانت الشعبوية بالأمس الممثلة باليمين المتشدد والعنصرى تقوم جاذبيتها على تداعيات سياسات التهميش الاقتصادى والاجتماعى والبطالة. واليوم يمكن إضافة رافد آخر أكثر أهمية للشعبوية وعنصرياتها، رافد يزداد قوة يقوم على القضية الهوياتية: فشل عملية الاندماج الوطنى فى حالات عديدة والعودة والانطواء فى ظل الهويات الأصلية كردّ فعل على عولمة جارفة. رافد يقوم أيضا على مشاكل اللاجئين والتحديات التى تواجه عملية اندماجهم وصعود التيارات الإسلاموية وخاصة المتشددة التى تهدد منظومة القيم الثقافية والاجتماعية المستقرة عبر الزمان فى أوروبا. أضف إلى ذلك انتشار ظاهرة الارهاب: الظاهرة الأكثر والأسرع تأثيرا فى نمو الفوبيا العنصرية فى جهة الأخرى.
ثالثا: سقوط مدوٍّ للحزبين الرئيسيين فى فرنسا وتراجعهما الذى يعكس فقدانهما لشرعية الخطاب والسياسة والدور، وتآكل هذه الشرعية وما تمثله من منظومة قيم سياسية عملية استقرت وحكمت المشهد السياسى الفرنسى فى الجمهورية الخامسة. جاء الانتصار لطرفين خارجين عن هذه المنظومة فى ثنائيتها: اليمين واليسار المعتدل. حكم انتخابات الرئاسة الفرنسية الصراع فى إطار ازدواجية الانغلاق فى «قلعة» ماضوية من جهة، والعولمة ولو بسرعات مختلفة فى الشأنين الاقتصادى والاجتماعى تحددها لدرجة ما السرعة التقليدية الأوروبية من جهة أخرى.
رابعا: أن فرنسا بحاجة لتغيير جذرى ولو تدرجى فى منظومة القيم الاقتصادية الاجتماعية الحاكمة وفى دور الدولة التدخلى الذى بدأت انعكاساته السلبية تطال بقوة المكانة الاقتصادية لفرنسا والقدرة التنافسية للاقتصاد الفرنسى من جهة، كما تطال الوضع الاجتماعى لطبقات واسعة فى المجتمع الفرنسى كان يفترض لهذه المنظومة أن تحميه وتحافظ عليه من جهة أخرى.
خامسا: أن هنالك أزمة هيكلية وأساسية فى إطار البيت الأوروبى لا يمكن التفرج عليها واعتبارها أمرا ثانويا أو اتخاذ موقف ضد الفكرة الأوروبية من أساسها. فالحل يبقى فى إطار البيت الأوروبى.
أمام الرئيس الفرنسى المنتخب الآن تحديات رئيسية خمسة:
أولا: معالجة الانشطار الحاصل والقائم فى المجتمع الفرنسى كما كشفت عن ذلك بشكل واضح الانتخابات الرئاسية ومعالجة مسببات هذا الانشطار على الصعيد الاقتصادى والاجتماعى والثقافى والسياسى لما لهذا الانشطار من تداعيات على التركيبة الوطنية.
ثانيا: يجب إيلاء عملية الاندماج الاجتماعى فى الضواحى الفرنسية الأهمية القصوى التى تستحقها. ضواحى البؤس والتهميش والتى تشكل أرضية خصبة لجميع أنواع الراديكاليات بالأمس واليوم، والتى توظّف من قبل أعداء فرنسا للدفع باتجاه نشر مثل هذه الراديكاليات العنصرية.
ثالثا: المطلوب إعطاء أولوية لإعادة بناء دور القاطرة الفرنسية الألمانية، وهى قاطرة تاريخية للمنظومة الأوروبية ولعملية بناء الاتحاد الأوروبى. فالمطلوب بلورة رؤية جديدة ومهام جديدة لاتحاد أوروبى تم توسيعه مرات عديدة وبشكل سريع وتكلفة مرتفعة بعد سقوط الاتحاد السوفيتى وتحرر دول أوروبا الشرقية وعودتها إلى البيت الأوروبى.
رابعا: إن إعادة تعزيز عملية البناء الأوروبى شرط أكثر من ضرورى لتفعيل وتطوير السياسة الأوروبية المشتركة. فدور القطب الأوروبى صار باهتا وهامشيا ومفقودا، وقد غاب ما يمكن أن نسميه سياسة مشتركة عملية وبقيت السياسة الأوروبية تتراوح بين السقوط فى خلاف فى المواقف السياسية تجاه قضايا أساسية أو بلورة مواقف عامة لا تقدّم ولا تؤخر فى أى مسألة دولية أساسية. يحصل ذلك فى مرحلة ما بعد «بعد الحرب الباردة» وفى مرحلة بناء نظام عالمى جديد. وتبقى أوروبا قطبا أساسيا إذا ما أحسنت استخدام أوراقها فى هذا المجال. وينتمى الرئيس الجديد إلى المدرسة الديغولية الميترانية فى السياسة الخارجية، الأمر الذى يشكل استمرارا لسياسة مستقلة ناشطة باستثناء المرحلة الساركوزية. سياسة خارجية غير ملتحقة بالولايات المتحدة ولكن حليفة لها.
خامسا: المبادرة نحو تنشيط سياسة أوروبية فاعلة تجاه منطقة المتوسط التى تشكل دائما أولوية فرنسية وتحديدا فى بعديها العربى والإفريقى. سياسة شاملة تتناول مختلف جوانب هذه العلاقات، والتى صارت اليوم أكثر من ضرورة إستراتيجية للطرفين الأوروبى والعربى من جهة والأوروبى والإفريقى من جهة أخرى.
هذه بعض التحديات المطروحة أمام الرئيس الفرنسى الجديد حتى تعود لفرنسا مكانتها على الصعيدين الأوروبى والعالمى ودورها الفاعل بشكل مباشر أو عبر الاتحاد الأوروبى.
كاتب سياسى لبنانى