تطوع للعمل فى مستشفى العزل بإسنا فى بداية موجات كورونا، وصل مع ثلاثة أطباء من القاهرة إلى إسنا فى رحلة مضيئة وجد الطريق جيدا حتى سوهاج وغاية فى السوء منها إلى إسنا وصلوا أخيرا بعد عناء شديد، راح يحلم بكوابيس كورونا والموت فى أول ليلة باتها فى المستشفى.
جلس الأطباء الجدد 4 ساعات مع استشارى مكافحة العدوى، فهم أن أخطر مكان للعدوى هو غرفة العناية المركزة، لم يكن يعلم شيئا عن المرض وبعد عدة أشهر من العمل المتواصل أصبح خبيرا به تتلقفه مع زملائه المستشفيات الخاصة.
استلم بدلة العزل «نظارة واقية، وكازلك وبدلة من مادة بلاستيكية خاصة عندما خلع البدلة مع زملائه فى أول يوم وجد عرقا شديدا، تضايق تنفسه وتعثرت رؤيته من تكاثف البخار على نظارته وخاصة فى الصيف وجد الماسك يحز فى وجهه ويترك أثارا على الجميع، «تعبوا من هذه الملابس فى الأيام الأولى، وكذلك الممرضات.
تفقد المستشفى وجده رائعا، وكأنه جهز للسياح وليس لمصريين فكل ما فيه جديد، كل غرفة عزل فيها كل شىء بدءا من جرس الإنذار والنداء الآلى وأجهزة التنفس الصناعى، ستة أدوار كلها على أرقى مستوى.
بعد فترة أدرك أن هذه المستشفيات تختلف تماما عن مستشفيات الصدر والحميات المنتشرة والتى لم تنجح فى علاج حالات الكورونا بل ومعاملتها وخدماتها كانت رديئة، قال فى نفسه هذه حقا هى المستشفيات التى تليق بمصر، تمنى ألا يطالها الإهمال الذى طال مستشفيات أخرى عريقة.
أعطى كل طبيب جرعات تحصينية من هيدروكسى كين وغيرها، بعد أن صار متمرسا فى المرض أدرك فعالية هذا الدواء الرخيص، أما أمبولات ريمديسيفير التى تسوق لها أوربا الآن فهى لا تصلح للمصريين «لأنها غالية جدا» فثمن الأمبول منها مائة ألف جنيه تقريبا ويحتاج المريض ثلاثة أمبولات وتفيد الشركات الأوربية فقط.
دخل على أول مريض كانت أقدامه تصطك من الخوف والرهبة من كورونا والموت الذى يحيط به، مع مرور الأيام تفاعل مع كل شىء فى المستشفى، نسى كورونا والمرض والخوف والموت وبدأ العمل الجاد والنوم العميق بدلا من الكوابيس.
تعلم أن الأشعة المقطعية لا تظهر علامات المرض فى بداية الإصابة ثم تظهر المرض بعدها بصورة دقيقة لا لبس فيها، وأن التغير الأساسى فى صورة الدم تظهر من ثانى يوم حيث تقل نسبة الخلايا الليمفاوية والنيتروفيل لتكون أقل من 20% من معدلاتها الطبيعية وأهم شىء هو نسبة الأكسجين فى الدم، تعلم أنه إذا قل الأكسجين فى الدم عن 80% يصعد للعناية المركزية.
كانت هناك ثلاث حالات حرجة مرشحة للموت فجاء أخصائى العناية د/مصطفى الزغبى فأنقذ معظمها وأخرجها بسلام من العناية، كان أول من طبق طريقة نوم المريض على بطنه لزيادة نسبة الأكسجين، أحدث طفرة فى المستشفى، بعدها جاء أ.د/محمد ممدوح فأحدث النقلة الكبرى فيها بعلمه واجتهاده.
فوجئ بوجود ثلاث أمهات حوامل قام أخصائى الولادة د/أحمد صالح بولادتهن، ويعد أول طبيب مصرى يولد حوامل كورونا.
كان عزل أطفالهن عنهن 14 يوميا فى حضانات بعيدة عن أمهاتهن قاسيا على الجميع، ربما كانت الأم والأب فى المستشفى وأضيف إليها الوليد، كانت الممرضات تطلق أسماء المواليد، رغم الألم فإن بهجة الولادة ونجاة الأم والجنين غطت على الأحزان، قبل الولادة كانت تجرى أشعة على الجنين كل ثلاثة أيام.
اكتسب الأطباء المصريون الذين عملوا فى العزل وكذلك الممرضات خبرات عملية وطبية رائعة فى التعامل مع المرض، وانكشفت أسرار المرض أمامهم، واستطاعوا تشخيص وعلاج أية حالة بسرعة ودقة.
كان البعض يمكث مستيقظا فى غرفة العناية يوما أو يومين دون راحة، مكث بعض الأطباء شهرا وبعضهم شهرين، وبعض الممرضات مكثن ثلاثة أشهر، كانت هناك استفادة قصوى من غير المتزوجات.
نظام هذه المستشفيات صعب على الجميع يعمل الطبيب 15 يوما، ثم يمكث مثلها فى عزل المدينة الجامعية بأسيوط مثلا ثم يأخذ إجازة شهرا، ولكن البعض يواصل ثلاثة أشهر متتالية.
وآه من خوف الوالدين على الأطباء والممرضات «يا بنى خذ بالك من نفسك، حرام عليك كده، ليه يا ابنى كده، صور لنا طعامك، شرابك، وغرفتك، إلخ» حديث مكرر دون ملل.
لا يخرج الطبيب والممرضة من المستشفى إلا بشهادة صحية يعطيها للكمين عند باب المستشفى.
كل مريض كان يدخل كان يتصور الموت من حوله ولا يتصور خروجه حتى يقال له لقد خرج أربعة اليوم، وستة بالأمس، وعشرة أول أمس تم شفاؤهم فيعود الأمل إليه.
فى أول يوم للمريض يظل يحدث أهله عن وصيته وتوزيع ثروته مع أن حالته أفضل من غيره.
بعد تحسن كل مريض وخاصة حرارته والكحة وألم الحلق والتنفس يبدأ فى شكر الأطقم ويطلب التصوير معها، أما الأطقم الطبية فتقوم بتصوير بعضها قبل الإجازات، دعاء كل المرضى لنا متكرر بعد التحسين «ربنا يرفع مقامكم فى الدنيا والآخرة كما أحييتمونا من موت محقق» دعاء كان يخرج من القلب ويخترق قلوبنا.
تعد مستشفيات العزل الجديدة مثل مستشفى إسنا والنجيلة والراجحى وأمثالها من المستشفيات الرائدة والتى أحدثت نقلة طبية وإنسانية رائعة فى منظومة الصحة المصرية.
ويعد مستشفى إسنا للعزل هو أول وأحدث مستشفى فى مصر، ولم يستقبل مرضى قبل تخصصيه لعلاج مرض كورونا.
والداخل إلى المستشفى لأول وهلة يتصور أنه أسس لعلاج السائحين الأثرياء وليس للمصريين العادين.
تجربة مستشفيات الصدر والحميات فى علاج الكورونا فشلت بجدارة وأساءت كثيرا للعلاج والمرضى والطب، فقد كان ينقصها الكثير للتصدى لهذه الجائحة وقد تعودت من قبل على سوء الإدارة والأزمة أكبر من قدراتها.
تحية لكل من ساهم فى هذا الإنجاز العظيم المسمى «مستشفيات العزل» وأرجو أن تسطر هذه التجربة كاملة وتوثق روائيا وسينمائيا، لأنها مفخرة لمصر، وعيبها الوحيد أن عددها قليل.