نشر موقع رصيف 22 مقالا بتاريخ 26 مايو للكاتبة سنابل قنو، تناولت ما يكتشفه الأبوان أثناء تربية أولادهم.. نعرض من المقال ما يلى.أنهت ابنتى مرحلة الطفولة المبكرة، وأقفلنا معا باب البكاء المتواصل لأسباب مجهولة، فقد تجاوزتْ مرحلة البكاء من أجل النوم، أو بسبب الجوع، أو المغص، وصار لبكائها أسباب توضحها لى بجمل طويلة، ما يعنى أننى دخلت فى مرحلة جديدة من مراحل الأمومة؛ فاليوم ثمة لغة بيننا، ولدينا قاموس لغوى طورناه بسرعة.
مؤخرا، أدركت أن وقت التربية ــ إن صح التعبير ــ قد حان، علما أننى لا أعرف ما هى التربية أصلا، فقد تشدقت طويلا فى فترة حملى بأن تربية البنات تكون بالحب فحسب، وظننت أن الحب هو ما سيجعلنى أقدّم فتاةً قويةً وواثقةً من نفسها تواجه المجتمع، وتختبر تجربتها فى الحياة، لكن الحب الذى أحاول أن أمنحه لابنتى لن يعلمها اللباقة، ولا ينجح فى غالبية المرات فى تخفيف موجات الغضب التى تنتابها بحسب ملاحظتى، كما أن الحب لا يطور مهاراتٍ متقدمةً تساعدها حين تخرج من البيت، وتلتقى بأطفال جدد بحسب التجربة الفعلية. وصلت مؤخرا إلى قناعة تامة بأن عليّ أن أتدرب على التربية، وأنا أحاور نفسى أولا، ثم زوجى فى ما نريد أن نربّى ابنتنا عليه، وبعدها كيف سنطوّع ما وصلنا إليه ليكون سهلا ومستساغا لطفلة صغيرة قاربت الثلاث سنوات.
تقول الآراء العلمية إن الثلاث سنوات الأولى فى حياة الطفل/ة هى الأهم، إذ تنعكس نتائجها على شخصيته/ا حين يكبر، فالمهارات التى يكتسبها من التجريب تترسخ فى ذهنه بسرعة بالغة، كما أن قدرته على التقليد والحفظ تكون فى أعلى مستوياتها، والأهم من هذا كله أن الأبوين هما النموذج الأول والأهم الذى يتبعه الطفل من ناحية المشاعر والسلوكيات، وبما أننى أراقب ابنتى كثيرا، وجدت أنها حساسة. لا يوجد تعريف محدد للحساسية، لكن بعض الآراء الطبية تقول إن أصحابها يمتلكون جهازا عصبيا أكثر استجابةً لأى محفزات نفسية أو عاطفية أو جسدية، وقد تلمّست حساسية ابنتى فى الدرجة الأولى تجاه الصوت، فمثلا كان يرعبها أن تسمع صوتا فجأةً، مثل صوت الباب، أو صوت رنين الهاتف، أو صوت حركة عند الشباك، ثم تطورت حساسيتها نحو الأصوات فأصبحت تميّز نبرة صوتى فى حديثى معها؛ هل تنطوى على حب ورحابة صدر؟ أم أننى أريد أن أجيبها لتكفّ عن السؤال؟ وباتت تميّز نبرة العصبية والتوتر، وتاليا تصدر عنها ردود أفعال تنمّ عن كونها منزعجةً، وغير معجبة بما بدر منى.
مؤخرا واجهت وزوجى انتقادات من أصدقائنا حول طبيعة ابنتنا، فالبعض يصفها بالحساسة وكأنه عيب، وبأنها تطلب الاهتمام بمبالغة، والبعض يصفها بـ«عيّوطة»، وينوهون بأهمية الانتباه إلى طريقة تربيتنا كى لا يصبح البكاء، والحاجة إلى الاهتمام، والحساسية، سمات فى شخصية هذه الطفلة. أحد لم يسألنى أو يسأل والدها فى ما إذا كان أى منا «عيّوطا»، أو حساسا، أو «أتنشن سيكر»، وهو صغير، وربما لم يزل حتى الآن.
فى رحلة التربية التى لا أعرفها جيدا، فكرت فى توجيه الأسئلة إلى نفسى: ما الذى أذكره من طفولتي؟ ما هى القيم والأخلاق التى اكتسبتها من تلك المرحلة؟ لعلّى أجد رأس الخيط الذى سيدلّنى على أسس التربية التى سأتّبعها مع ابنتى، لكن لا إجابات واضحةً لدى بعد، فما أذكره من طفولتى الواعية هو أننى كنت أتلقى بعض الانتقادات التى حفرت عميقا فى داخلى. أما الثلاث سنوات الأولى، فلا أذكر شيئا منها، إلا أننى متأكدة من أن ما جرى فيها انعكس عليّ بصوره السلبية والإيجابية.
توجد على شبكة الإنترنت كمية مهولة من المواد المرئية والمكتوبة حول موضوع التربية، ومناهج التربية الحديثة، وأغلبها تتناول أهمية الثلاث سنوات الأولى، ويعطوننا كآباء وأمهات نصائح وإرشادات للتعامل مع أبنائنا، لمساعدتنا طبعا فى صنع أطفال أفضل للمجتمع، متناسيين تماما أن الحديث فى الأمر مختلف عن خوض التجربة، فكيف لى أن أوقف نوبة البكاء عند ابنتى حين تودع صديقتها بعد ساعات من اللعب، وأنا ما زلت أبكى على صديقتى فى كل مرة تسافر فيها وتغيب عني؟ ثم كيف عليّ أن أتحايل من خلال التربية على ابنتى لأخفف من حساسيتها تجاه أى شخص يوجه إليها ملاحظةً، أو يطلب منها أن تخفض صوتها أو أن تصمت، وأنا حتى اللحظة أتحسس من أى شخص يوجه إليّ حديثا لا ينطوى على محبة ورفق؟ وكيف سأخفف من حاجة ابنتى إلى الاهتمام ولفت الأنظار إليها، وأنا ووالدها نحب الاهتمام والأضواء؟ فى الواقع لا يمكن إنكار فضل هذه المواد علينا كأمهات وآباء، إلا أن ما ينقصها هو الانتباه إلى الطبيعة البشرية التى تنسى، وتتعب، وتتكاسل، وتنهار، فقد نجحتُ مرات عديدةً فى اتّباع أساليب حوار، وإدارة، وتعليم مع طفلتى بسبب هذه الفيديوهات، إلا أننى لا أستحضر هذه المهارات فى أوقات لاحقة أكون فيها على طبيعتي!
التفكير فى هذه المادة ومحاولات كتابتها كانا ظاهريا من أجل ابنتى، لكن فى حقيقتهما انطويا على محاولة استماع ومصاحبة للطفلة فى داخلى، فاليوم صار واجبا عليّ أن أحفر عميقا فى الأسباب التى جعلتنى شخصيةً حساسةً و«عيوطةً»، بالرغم من أننى أدّعى الثقة بالنفس، كما أننى حظيت بحب كبير طوال حياتى، وفى المجمل لا يمكن للإجابات أن تغير واقع الحال اليوم، لكنها ستفكّ ألغازا كثيرةً حول ابنتى وحول طباعى التى تصالحت معها بعد تجارب حياتية وعملية وعاطفية.
أتساءل: ألا يستوجب أن أشعر بأريحية فى الحديث والانفعال والتصرف مع طفلتى، وتاليا ينعكس هذا عليها، وتكون حرةً ومرتاحةً أكثر بالتعبير عن نفسها، ثم تشكل شخصيتها بالطريقة التى تريدها، ثم تخلق دوائر وتتخلص من دوائر كما تريد، وبعدها تنضج وتنظر إلى تجربتها بتجرد ومن دون تذنيب، وهنا أكون قد ربّيتها بالحب فحسب؟ فمن منا لا يبكي؟ ومن منا لا يتحسس ولو من أمر واحد فقط؟ ومن منا لا يحب الانتباه؟ إذا فلتذهب تقييمات المجتمع إلى الجحيم، ليس لدينا سوى الحب يا ماما.
النص الأصلى: