فى منتصف الأربعينيات من القرن الماضى أتيحت الفرصة الذهبية الأولى للحركة الإسلامية الوليدة المتمثلة فى جماعة الإخوان، وبدأت بترشيح الشيخ البنا للبرلمان فى الإسماعيلية.. فاستدعاه النحاس باشا، وكان حكيما، وقال له:
هل أنت رجل سياسة.. أم دعوة؟
فقال البنا: أنا رجل دعوة فقال النحاس: سأعطيك ودعوتك فرصة العمر لتدعو كما تشاء، وإن أصررت على الترشح فسيسقطك الإنجليز.
وقبل الشيخ البنا بذكائه العرض الدعوى السخى.. فأقام شباب الإخوان مأتما وعويلا بحسب تعبير الأديب الرائع خالد محمد خالد.. فجلس معهم الشيخ البنا، وطيب خاطرهم وذكرهم بصلح الحديبية.. وكيف كان فتحا ونصرا للمسلمين مع أن ظاهره الضعف وقبول الشروط المجحفة حتى.
وتحرك البنا مع رفاق دعوته فى كل أرجاء مصر وبريطانيا والقصر والحكم مشغولون بالحرب العالمية الثانية.. وافتتح الإخوان شعبة رسمية لهم فى كل قرية ومدينة ونجع وكفر.. واستبقوا الزمان فانتقلوا من مؤتمر إلى معسكر إلى معتكف إلى مهرجان.. ودخلت دعوتهم كل بيت وانتقلوا بدعوتهم إلى السعودية.. ومنها ومن رحلة الحج التقوا بآخرين فنقلوا دعوتهم إلى بلاد أخرى، مثل سوريا والسودان والأردن وغيرها، ورحب بهم الملك عبدالعزيز.. وأظهر البنا ولاء له وقبل يده ما جعل الملك ينزله ضيفا فى كل رحلة حج على نفقة المملكة، ويسمح له بإعطاء المحاضرات والدروس فى الحج.. حتى رحلت حكومة النحاس باشا والوفد من الحكم وجاء أحمد ماهر بدلا منه.. فترشح الشيخ البنا مرة أخرى فى البرلمان عن محافظة الإسماعيلية.. فتركه أحمد ماهر وزوّر النتيجة فسقط فى الانتخابات، وهاج شباب الإخوان وماجوا، وكان الشيخ حسن البنا قد كون الجهاز الخاص، وهو جناح عسكرى للجماعة، شارك بعضه فى حرب سنة ١٩٤٨م مع الجيوش العربية.
ولكن أسوأ أهداف هذا الجهاز، كما قال كل المؤرخين لهذه الفترة، هو البند الأول من أهداف تكوينه، وهو الدفاع عن الدعوة.. وهذا الهدف الغامض هو الذى سيضيّع الجماعة والدعوة والنظام الخاص وكل شىء.. كما سيأتى بعد ذلك.
المهم أن النظام الخاص أخذ يتطور وينمو ويقوى حتى أصبح قوة موازية للجماعة.. وأصبح عبدالرحمن السندى رئيسه أقوى من البنا ونافذا على الأرض عنه.. كما سنعلم من مجريات الأحداث.. وبدأت سلسلة الاغتيالات ومنها محاولة اغتيال رئيس مجلس النواب وقتها. وكذلك تفجيرات فى حى اليهود المصريين قتلت وأصابت العديد منهم.
ثم بدأ اتهام بعض شباب الإخوان ببعض أعمال العنف وتقديمهم إلى المحاكمة، فحكم على بعضهم القاضى الخازندار بعشر سنوات، وكانت هذه أحكاما كبيرة وقتها.. فقام النظام الخاص بقتل القاضى الخازندار.. فغضب الشيخ البنا من السندى ووبخه توبيخا شديدا، وقال له وهو يبكى أمام مجموعة من الإخوان منهم العسال وفريد: «ماذا أقول للقضاة.. ماذا أقول للمستشار الهضيبى؟ «.. وأدرك وقتها أن الأمور أفلتت من يده، وأن النظام الخاص قد تغول ولا سبيل للسيطرة عليه».
وأدرك النظام الخاص أن الدولة المصرية بدأت تتعقبه فقام بنقل بعض وثائقه فى سيارة جيب قديمة، تعطلت براكبيها من النظام الخاص فى أحد الميادين.. فجاء اثنان من المخبرين ليساعدوا فى دفع السيارة فوجدوا شباب النظام الخاص يجرون فجروا وراءهم تلقائيا ولكنهم فروا هاربين.. ثم اصطحبوا السيارة إلى البوليس ومنه إلى المديرية فالوزارة.. وكانت فيها وثائق خطيرة للنظام الخاص بعضها يستطلع الأحزاب السياسية.. وكان هؤلاء يمزحون مع بعضهم فى السجن على ذلك.
وبعدها اكتشفت حكومة النقراشى حجم النظام الخاص وأفرعه وتسليحه وأفراده وبعض عملياته، فقضت عليه فى قضية شهيرة اسمها قضية «السيارة الجيب».. ثم أصدرت قرارها بحل جماعة الإخوان قانونيا.. وبعدها بأيام أمر السندى بعض رجاله باغتيال النقراشى باشا رئيس الوزراء «رئيس الدولة وقتها» ووزير الداخلية أيضا.
وأعتقد أن ذلك تم دون إذن من المرشد البنا، الذى أدرك أن كل ما بناه قد هدم وهو يرى أنصاره وتلاميذه يقبض عليهم الواحد بعد الآخر.. ولأول مرة تبدأ دوامة التعذيب لفصيل إسلامى فى مصر.. ثم ترد الحكومة بقتل رأس الدعوة الشيخ البنا فى مقابل قتل الجماعة لرأس الدولة.. لتضيع الدعوة وقائدها وتحشر لأول مرة فى السجون وتهرب فى كل مكان ويعذب أبناؤها.
وسأترك القارئ لنفسه ليدرك وحده كيف ضاعت الفرصة الأولى؟!
وهل أخطأ البنا فى تكوين النظام الخاص؟!
وما دور النظام الخاص وعنفه وسريته فى تدمير وضياع كل شىء؟!