يأتى تحذير الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون خلال مقابلة صحفية الأسبوع الماضى من أن الوضع الحالى فى أوروبا يذكر بالوضع الذى عاشته القارة القديمة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، من حيث الانقسامات والمخاوف والانغلاق على الذات وتداعيات الأزمة الاقتصادية فى مجالات مختلفة، وصعود التطرف القومى ــ ليثير الكثير من الأسئلة والنقاش حول مدى صحة التوصيف ودقته. وأيا كانت المواقف حول تصريح الرئيس الفرنسى يبقى التحذير الذى حمله هذا الكلام فى مقارنته بين اليوم وفترة ما بين الحربين العالميتين فى أوروبا أكثر من واقعى حول ما آلت إليه الأمور فى «البيت الأوروبى». مشاكل الداخل وانعكاسات التوسع الضرورى لإنقاذ دول أوروبا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفيتى من مخاطر الانهيار وانعدام الاستقرار وهى مخاطر تصيب البيت الأوروبى ككل، أثرت سلبا فى عملية تعزيز الاندماج الأوروبى نظرا للمتطلبات المادية لهذا الأمر ولوجود انقسامات جديدة وحادة ضمن العائلة «الجديدة» المتوسعة. ضغوط الداخل وضغوط الخارج فى المحيط المباشر الشرق أوسطى بحروبه وصراعاته، والإفريقى بأزماته المختلفة، والشرق أوروبى بتعثره وضياعه، والتفاعل بين تحديات الداخل والخارج كلها عناصر تصب فى فهم التحذير الرئاسى الفرنسى. ينعكس ذلك دون شك فى إحياء مشاعر وطنية حادة فى البيت الأوروبى انعكست فى نتائج انتخابية فى دولٍ عديدة، مشاعر تريد إحياء إعادة صياغة العلاقات ضمن العائلة الأوروبية وبعض هذه المشاعر يغذى التيارات الشعبوية الداعية للانفصال والطلاق والخروج من البيت الأوروبى عند أطرافها المتشددة.
فهنالك قلق متزايد من الهجرة غير الشرعية ومن الانقسامات التى خلقتها بين الدول الأوروبية وضمن هذه الدول أيضا فأوروبا التى استقبلت نحو مليون ومائتى ألف لاجئ عام 2015 بشكل لم تره منذ الحرب العالمية الثانية تحاول توزيع الأعباء بين أعضائها بسبب مخاطر هذا الوضع الذى ما زال قائما نتيجة الحالة البائسة والخطيرة والمستمرة فى الجوار الأوروبى.
وهنالك قلق أوروبى متزايد من الانجرار إلى صدام أمريكى إيرانى مفتوح بعد دخول العقوبات الأمريكية ضد إيران فى مرحلتها الثانية حيز التنفيذ وازدياد الخطاب الأمريكى حدة تقابله ردود إيرانية بالحدة ذاتها وتداعيات هذه المواجهة بأشكالها المختلفة فى الشرق الأوسط المشتعل أساسا، على الجوار الأوروبى. كما أن هنالك قلقا أوروبيا من انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من اتفاقية الصواريخ القريبة والمتوسطة المدى، مع روسيا الاتحادية وهو ما يزيد من حدة التوتر وتصعيد الموقف بين القوتين ويغذى مناخ الحرب الباردة على المستوى الدولى. رافد آخر للتوتر الدولى المثير للقلق الأوروبى يكمن فى سياسة الحرب الاقتصادية التى تشنها الولايات المتحدة على الصين الشعبية. فانتعاش السياسات الحمائية أو العودة إليها على طريقة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب تصيب الجميع بالأضرار فى أوقات مختلفة وفى قطاعات مختلفة، لكنها تبقى مكلفة جدا. وتجد أوروبا ذاتها أقرب إلى الصين الشعبية فى هذه المواجهة التى أطلقها الحليف الاستراتيجى الأمريكى.
فى خضم ذلك كله يتجه الأوروبيون ضمن منطق ما يعرف «بالسرعات المختلفة» فى عملية البناء الأوروبى الأمر الذى يعنى التعاون بين مجموعات صغيرة ضمن العائلة الأوروبية وتعميق وتطوير هذا التعاون دون انتظار بقية أعضاء العائلة إلى أن ينضموا إليه لاحقا، يتجه هؤلاء بناء على مبادرة فرنسية نحو بلورة دور دفاعى عسكرى. وقد شهد اجتماع باريس فى 7 نوفمبر ولادة «مبادرة التدخل الأوروبية» لتكون خريطة طريق لدول تسع منها بريطانيا التى تغادر البيت الأوروبى ولو قررت البقاء ضمن هذا الإطار الدفاعى. تهدف هذه المبادرة لتعزيز القدرات الدفاعية المستقلة ولكن بالتكامل مع منظمة حلف شمال الأطلسى وكذلك الاتحاد الأوروبى ككل، كما يقول أصحابها وقد أدت هذه المبادرة إلى رد فعل عنيف من قبل الرئيس الأمريكى متهما فرنسا بشكل خاص وهذه المجموعة الأوروبية بالعمل على إضعاف الحلف الأطلسى وشق صفوفه بدل زيادة إسهامها المادى فى موازنة هذا الحلف بغية تعزيزه.
إن «فلسفة» السرعات المختلفة تهدف إلى تقديم حلول عملية وواقعية تكون بديلا عن الجمود والشلل القاتلين فى ظل وجود انقسامات حادة أحيانا تمنع أو تعيق «تعميق» تعاون «الكل» الأوروبى فى إطار المؤسسات الأوروبية المشتركة: إنها حلول لأوروبا فى أزماتها المختلفة والمتعددة وهى أيضا دروسٌ لأقاليم أخرى فى العالم لها تظيماتها الإقليمية، للتعامل العملى والواقعى مع تحدياتها وأزماتها التى بعضها أكثر حدة ومخاطرا من الأزمات فى البيت الأوروبى، بغية تعزيز وتطوير التعاون المؤسسى الإقليمى على أسس وقواعد واضحة وفعالة وذات مصداقية.