أسابيع ثلاث مرت على الانتفاضة اللبنانية، التى رآها البعض أنها تأتى فى سياق الموجة الثانية من الانتفاضات العربية التى تضم إلى جانب لبنان كلا من السودان والجزائر والعراق ولو اختلف أحيانا صاعق التفجير بين بلد وآخر لكن العامل الأساسى يتمثل دائما فى الأوضاع الاقتصادية المتردية وتداعياتها الاجتماعية والأخرى. «كفى لم نعد نحتمل» هو ما يصلح كعنوان للانفجار الشعبى فى لبنان. الورقة الأولية التى قدمتها الحكومة على عجل وتحت ضغط التطورات، قبل أن تستقيل، تحمل بعض الإصلاحات التى لا تعالج أسباب الأزمة فى العمق ولكنها تخفف القليل من تداعياتها الاقتصادية والمالية. ويسأل البعض ويتساءل البعض الآخر وكلهم على حق لماذا لم تأت هذه الخطوات «الإصلاحية» بشكل استباقى خاصة أن جرس الإنذار كان يدق باستمرار حول الحريق القادم. الوضع اللبنانى اليوم ينفتح على مشاهد أزموية ثلاث مترابطة بأشكال مختلفة تغذى وتتغذى على بعضها البعض.
أولا: مشهد الأزمة الاقتصادية المالية والاجتماعية الحادة التى جاءت الانتفاضة كما أشرنا لتعبر عن رفض هذا المشهد وضرورة إسقاطه. فاستمرار الوضع على ما هو عليه بدفع نحو المجهول / المعلوم وهو الانهيار الاقتصادى المالى بتداعياته الخطيرة والكارثية المختلفة فى ظل أزمة استقالة الحكومة وبالتالى غياب أى أفق زمنى محدد لولوج باب الحلول والمعالجات الصحيحة والشاملة وفى العمق لهذه الأزمة المستفحلة. ولا يكفى تبادل الاتهامات بتسييس الانتفاضة لنزع شرعيتها وحقيقة ما تعبر عنه، ومحاربة التسييس الذى مارسه ويمارسه الجميع فى أوقات مختلفة وتحت مسميات مختلفة يستدعى معالجة الأسباب العميقة للمشكلة التى قد يحاول البعض تسييسها والاستفادة منها فى اتجاه أو آخر.
ثانيا: مشهد الأزمة السياسية التى عبرت عنها استقالة الحكومة والتى جاءت فى خضم حرب الصلاحيات التى كنا قد بدأنا نرى إرهاصاتها قبل الانتفاضة. واشتدت حاليا تحت عناوين مختلفة منها احترام اتفاق الطائف روحا ونصا والتحذير من الخروج عليه لأنه يفتح الباب نحو المجهول والمطالبة من العديدين بتفسيره ولو لأسباب مختلفة وأحيانا متناقضة. يحصل ذلك فى إطار نظام يقوم على ما يعرف «بالديمقراطية التوافقية» التى تقوم بدورها على مشاركة جميع المكونات المذهبية اللبنانية فى السلطة وهو نظام يتعرض للاهتزاز كلما تغيرت موازين القوى الداخلية والخارجية المرتبطة بها بشكل أو بآخر المذهبيات السياسية ولو تحت عناوين مختلفة. واقع النظام اللبنانى أنه يقوم بالفعل على فيدرالية مذهبيات سياسية يعبر عنها ويديرها مجلس قيادى أو مجلس إدارة من الزعماء السياسيين لهذه المكونات. أمور تؤدى إلى الشلل أو إلى تفاهمات فوقية على حساب مصالح الشعب الحقيقية كما تقوم على لعبة «الفيتوات» المتبادلة التى تشل أو تضف العمل المؤسسى للدولة ويجرى أحيانا الاستعانة «بالخارج» للتغلب ولو مؤقتا على هذه الفيتوات المتبادلة.
ثالثا: اشتداد الصراع الخارجى الإقليمى الدولى واشتداد الاستقطاب الحاد معه فى المواجهة الإيرانية مع كتلة عربية أساسية. تزداد حدة مع الدور الأمريكى الصدامى فى المنطقة. مواجهة تمتد بشكل خاص فى النقاط المشتعلة فى اليمن وسوريا التى يمتد مسرحها الاستراتيجى فى هذه المواجهة من بغداد إلى بيروت وكذلك فى المسرح الاستراتيجى للصراع الفلسطينى الإسرائيلى بشكل خاص، ذلك كله فى إطار أوسع يمتد من مياه الخليج إلى مياه البحر الأبيض المتوسط. هذا الصراع الخارجى يلقى بثقله أيضا على مسار تطورات الأزمة الداخلية اللبنانية بشقيها الاقتصادى الاجتماعى المطلبى والسياسى التقليدى. فى ظل هذه التعقيدات والتداخلات بين جميع هذه المشاهد هل نكون فى لبنان أيا كان موقفنا واتجاهاتنا السياسية على مستوى التحدى: تحدى إنقاذ المركب اللبنانى من الغرق فى العواصف السياسية الداخلية والخارجية المتداخلة من خلال حوار وطنى هادف يجمع أهل القرار وأهل الرؤية وأهل الخبرة لبلورة أجندة إصلاح شامل. أجندة تشكل قطيعة مع الكثير من المفاهيم والسلوكيات السياسية والاقتصادية الماضية التى أوصلتنا إلى الأزمة ونقطة اللارجوع.
الخطوة الأولى والأساسية فى مسار الإصلاح الشامل المنشود والمطلوب تبدأ بتشكيل حكومة من أصحاب التفكير الحر والكفاءة المشهود لها والخبرة الغنية لتقود سفينة لبنان نحو بر الأمان أم نقول على الوطن السلام.