لا أنسى مسيرات الأشجار السنوية فى بداية الربيع من كل عام فى حى المعادى والتى كانت تنعقد صباح يوم الجمعة وتنظمها جمعية محبى الشجرة. ازدادت علاقتى بالأشجار بسبب المسيرات الثلاث التى حضرتها مع الجمعية فى صحبة عدد من المهتمين لم يكن كبيرا وأيضا فى صحبة رائعة من الأساتذة الأفاضل المختصين فى علوم النباتات والبيئة، بعضهم كان من أعلام ومشاهير تلك العلوم. كانت خريطة السير المعدة من أجمل ما رأيت رغم بساطتها، ولا أنسى فى أول مسيرة لى معهم كيف أنها انتهت فى واحدة من أقدم فيلات المعادى التى يشغلها حتى الآن منزل السفير المكسيكى الذى كان من اللطف أن استقبلنا بنفسه فى حديقته. بالرغم من أن علاقتى بالأشجار والطبيعة ممتدة ومتصلة من قبل تلك المسيرات بسنوات عديدة، ولكن تلك المسيرات الرائعة التى لم أعد أسمع عنها كانت مصدرا لطاقة متجددة ومساندا كبيرا لفهم أفضل للأشجار. وكان استماعى للأساتذة المصريين الكبار، رجالا ونساء، وهم يشرحون لنا بكل دقة وبساطة عن كل شجرة وأصلها وصفاتها وأوراقها وأزهارها وكم تدوم تأثيرا كبيرا لأنى غالبا ما أفتقد تلك الروح المحبة لموضوع العلم والشغف به فى الكثير من أوساطنا الأكاديمية ربما لضغوط الحياة أو لأى أسباب أخرى.
لا أدرى ماذا يحدث فى جمعية محبى الشجرة ولكنى أتمنى أن تظهر لدينا جمعيات ومنظمات غير حكومية عديدة تهتم ليس فقط بالطبيعة وأشجارها كمصدر للجمال ولكن أيضا كمصدر أساسى يمكننا من البقاء، فهما لا ينفصلان. ولكن الحفاظ على كوكبنا ومصادر الجمال فيه سواء فوق الأرض أو تحت الماء أو فى أماكن أخرى يواجه تحديات وجودية، ولعل من أهمها إيجاد طرق أكثر استدامة لإنتاج الطعام. فهم ضرورة التعامل مع مثل هذا التحدى كان الدافع لمؤسسة روكفلر الأمريكية فى أن تطرح قضية الطعام المستدام التى تواجه الكوكب بأكمله فى مسابقة دولية، وتبين طريقة إدارة المسابقة مدى الجهد والتفكير العميق والاهتمام بتلك القضية التى تمثل أحد التحديات الرئيسة لمستقبل البشرية. تقدم للمسابقة حوالى ألف وثلاثمائة فريق من أنحاء العالم المختلفة وتم عمل تصفية أولى اختير فيها خمسون فريقا وجهت لهم نصائح وملاحظات على مقترحاتهم الأولية وطلب منهم إعادة التقديم بعد شهور قليلة، ثم تم عمل تصفية ثانية تم فيها تقليص المنافسة لتكون بين عشرة فرق فقط وطلب أيضا من تلك الفرق أن يقوموا بتطوير آخر يركز أيضا على طريقة سرد رؤيتهم للتحول لإنتاج الطعام المستدام. وكان بين تلك الفرق العشرة فرق من أمريكا اللاتينية، وفرقتان من أفريقيا وفرق من آسيا وخاصة من الهند وفرق من هولندا وكندا والولايات المتحدة. وأظهر هذا التنوع الذى تم تقديمه بصورة علنية لعدة أشهر حتى يتم الاختيار النهائى الإمكانيات المختلفة التى يمكن من خلالها التعامل مع تلك القضية وأهمية المنظور المحلى، كما أظهر أن هذا التحدى الكبير لا يتطلب فقط تقنيات متقدمة. وقدمت الفرق المختلفة العديد من الابتكارات المحلية والمعرفة العميقة بدور الطعام فى المجتمع والذى يتعدى مجرد التغذية، ويكون فى أحيان كثيرة ممكنا من الإسهام فى تحقيق العدالة الاجتماعية والتعامل مع المشكلات البيئية الكبيرة مثل توفير المياه المستدامة للجميع والتخلص من المخلفات. وفى بداية هذا العام تم اختيار الفريق الفائز والذى يضم متخصصين متنوعين وفنانين ومعماريين ويتعاون مع منظمات للبحث. وقدم هذا الفريق رؤية مستدامة قابلة للتنفيذ تعمل على توفير الطعام الآمن وحل مشكلة المياه كما يقوم بتمكين المجتمعات المهمشة فى مدينة ليما عاصمة بيرو فى أمريكا اللاتينية.
طالما تساءلت عن مؤسساتنا غير الحكومية ولماذا لا تساهم فى طرح القضايا والتحديات المحلية والتى هى فى حقيقتها ترتبط بالتحديات الدولية بالصورة التى تشجع وتحفز الابتكار المحلى وتدعم وتروج للاستجابات المرنة التى نحتاجها بشدة. ولم أكتف بالتساؤل بل حاولت إقناع إحدى أكبر المؤسسات الاجتماعية فى مصر لتطوير مساهمتها من خلال ليس فقط الاهتمام بما يبدو ذا تأثير مباشر وقصير الأمد ولكن لما قد يبدو أنه أبعد أجلا ولكنه أبقى وأكثر تأثيرا. اقترحت عليهم المساهمة بجدية فى تمويل أبحاث الدكتوراه لطالباتنا وطلابنا حتى يمكن بناء قاعدة محلية علمية تربط بين محبة الطبيعة والعمل على إنقاذها الذى هو إنقاذ للمجتمع. وعندما حلت بنا جائحة كورونا أردت أن أؤكد لهم أنها فرصة كبيرة لتطبيق اقتراحى لأن الجائحة أظهرت كيف أن تعدى الإنسان على بيئته يمكن أن يتسبب فى مشاكل مهولة. لم أنجح بعد فى إقناعهم ولكننى أتمنى أن تتغير الأمور للأفضل فى المستقبل القريب.
يحزننى بالطبع كثيرا أنه فى ضوء غياب تمويل جدى (ليس كبيرا للغاية) للنابهات والنابهين من طالباتنا وطلابنا يرحل العديد منهن/م بحثا عن اختبار قدراتهن/م وأيضا بحثا عن بعض الفهم والتقدير والحياة المعقولة. ونخسر نحن مجهوداتهن/م الضرورية، كما نخسر وقتا ثمينا فى مواجهتنا مع التحديات العاجلة المناخية والبيئية.
نحتاج ولا شك للعديد من الجمعيات فى أنحاء مصر والتى تهتم بالطبيعة والحياة البرية وتشجع أفراد المجتمع على تقديرها وحبها لأن خطواتنا الأولى نحو مستقبل أكثر عدلا واستدامة يبدأ من حب وشغف حقيقى بالطبيعة وتقدير لقيمتها التى لا تعوض. ولكننا أيضا نحتاج لرؤية تحول هذا الحب والتقدير إلى عمل عاجل.
يعجبنى كثيرا شعارا لجمعية السلام الأخضر يقول «نحمى ما نحب» فحب الطبيعة هو ما يجب أن يكون الدافع الحقيقى والمستمر لإنقاذها. كما أننى ألاحظ وربما يلاحظ أيضا الكثيرون أن علماء البيئة والطبيعة فى أنحاء العالم، وخاصة أولئك الذين فى الخطوط الأولى لمحاولة إنقاذ كوكبنا من الخطر الداهم المحدق به وبنا الآن هم أساسا محبون يكادون يكونون عاشقين للطبيعة.
أستاذ العمارة بجامعة القاهرة