«أنا ما بدى أعمل أصحاب جدد» قالت لى بحدة. «أنا بدى أصحابى القدامى، بدى ناس ما رح أشرح لهم أصل الأمور».
فاجأتنى صديقتى الجميلة الاجتماعية الواثقة من نفسها بموقفها المتشدد من الصداقات الجديدة، فقد رمت جملتها هذه وسط حديث بات يوميا بين أصدقاء شتتتهم التغريبة السورية. فمن منا لا يمضى ولو حتى دقائق يوميا على الهاتف مع صديق أو قريب وهما فى بلدين مختلفين؟ من منا لا يحاول التشبث بإيقاعه اليومى رغم سريالية الوضع داخل سوريا.
سهولة التواصل والاتصال كثيرا ما تشعرنا أننا نواكب التغييرات فى حياة من نحب وكأننا بقربهم. نسأل والدتنا عن وصفة طبخة، نتناقش مع ابنة عمنا عن فستان العروس، نستفهم من حضر العزاء وكيف تصرف أهل الفقيد، نطمئن أنه وبرغم الحرب فقد أزهر المشمش فى الغوطة وظهرت عربات اللوز الأخضر، التى يدفعها أمامهم الباعة المتجولون فى شوارع المدينة.
***
من الناحية الأخرى، تعج شبكات التواصل الاجتماعى بنقاشات تعكس آراء السوريين على اختلافهم. نتناقش، نتفق، نختلف، نتشاجر، نقاطع بعضنا، نتقرب من بعض آخر، نتصالح، نحلف أننا أصدقاء رغم الخلاف، ثم نحلف أننا ما عدنا أصدقاء. نسجنا صداقات جديدة جلها افتراضية، ربما لو كنا قد تعرفنا على من يشهبنا فكريا فى الحقيقة لنفرنا منهم بسبب أشياء أخرى فى شخصياتهم، فمع تجذر أزمتنا ومع تشرذمنا حول العالم، أصبحت خياراتنا فى الأشخاص مبنية أكثر على تشابه مواقفنا السياسية. فمعرفتنا بالناس حصريا من خلال فيسبوك لا يعطينا صورة دقيقة عما إذا كان فلان خفيف الظل فى الحقيقة، أو فلانة حديثها بجمال كتابتها.
فى عالم صداقاتنا الجديدة، تنقصنا الذاكرة الحسية. فنحن لم نغل فنجانى قهوة لنشربهما مع هذا الشخص قرب الشباك، لم نمش مع الأخرى فى حارة ضيقة فمررنا أمام مخبز الحى لحظة خروج أرغفة المساء. فى صداقاتنا الافتراضية لم نحضن صديقة فقدت ابنها، ونحن نعزيها، ولم نجلس صامتين قرب ذلك المفكر الذى اختفت زوجته.
حين يحالفنا الحظ، يمكن أن نلتقى أولئك الأشخاص الذين أصبحنا نشعر بأننا نعرفهم جيدا، رغم أننا لم نعرفهم فى حياتنا السابقة فى سوريا. حين نلتقى للمرة الأولى قد ننتقل فورا للمرحلة التالية من الصداقة والعلاقة الإنسانية أو قد نقرر أننا سوف نكتفى، بعد لقائنا الأول، بمتابعة صداقتنا إفتراضيا. فالمسألة كما نعلم مبنية ولو جزئيا على الكيمياء الإنسانية: قد نحب أحدهم أو لا نحبه كشخص دون أن يؤثر ذلك بالضرورة على احترامنا له كشريك فى النقاش والفكرة.
نحن نغربل أصدقاءنا ومعارفنا باستمرار، نتساءل أحيانا: كيف كنا أصدقاء مع أحدهم وفى ماذا كنا نتشارك، ثم نرجع فنتذكر باص المدرسة وصينية الكبة فى بيتهم فى يوم شتوى مع شوربة العدس. نتساءل: ماذا جرى لصداقتنا مع ابنة الجيران، التى كنا نلعب معها فى صغرنا، فنستجمع ذلك الصيف الذى كشف عن مدى اختلافنا معها فى تقييمنا للأولويات، دون أن يلغى ذلك ذكريات جميلة نجدها مطوية كورقة مصفرة فى مكان بعيد من قلبنا.
***
لكن ماذا نحن بفاعلين اليوم، فى حياتنا الجديدة، خارج سوريا أو حتى داخلها، مع التغير الكبير فى التركيبة الإجتماعية؟ بعضنا أخذ قرار الهجرة قبل تدهور الأحوال فى سوريا، بعضنا يعيش خارج البلد لأسباب لا علاقة لها بالثورة أو الحرب أو تردى الأوضاع الاقتصادية والأمنية، وبعضنا بدأ حياته الجديدة فى السنوات الأخيرة فى بلد وصل إليه، وبعضنا الآخر ما زال داخل سوريا يحاول التمسك بما هو مألوف مع محاولات دائمة للتأقلم مع ما هو جديد.
هل تعرفنا على ناس جدد؟ طبعا. هل بنينا صداقات ارتبطت بداية بوضعنا الجديد ثم أصبحت راسخة فى حياتنا اليوم؟ قطعا، فالعلاقات الإنسانية تنسج أحيانا دون قرار واع منا، تتحرك كالماء بشكل انسيابى طبيعى يروى مناطق جافة داخلنا فنخرج من جلسة لم نكن متحمسين لها نشعر أننا أقل وحدة. لكننا فى ظروف معينة، وفى عز شوقنا للحظات لا نستطيع التعبير عنها بدقة، تجدنا نقلب الطاولة على حياتنا الجديدة ونتوق إلى أشخاص رحلوا، أشخاص قاطعناهم ولن نغفر لهم اختلافهم معنا، لكن ضحكتهم ترن فجأة فى آذاننا فنبتسم، قبل أن نلعن السياسة ونلعنهم لما نراه أنه موقف لا أخلاقى فى نظرنا قرروا أن يأخذوه.
***
حين تصرخ صديقتى أنها لا تريد أصدقاء جدد، فهى تعبر بشكل لا لبس فيه عن شوقها لصداقات قديمة كبرت مع فصول المدرسة ورحلات الجامعة وسنوات الشباب وقصص الحب والفرح، صداقات ثابتة مع أناس يعرفوننا فلا نحتاج أن نفسر لهم بل يكفى أن نكمل معهم حديثا بدأناه آخر مرة التقينا، ربما من سنة أو من خمس سنوات. فى قلبنا تلك الصداقات هى صداقات اللانهاية، مع أشخاص نفترض أنهم لم يعودوا يحكمون علينا لأنهم تقبلونا كما نحن، فهموا تضاريس روحنا وطبقات عواطفنا وسامحونا وتصالحوا معنا لأنهم أحبونا كما نحن، على علاتنا، دونما أسئلة. قد تكون هذه الصداقات اليوم جزءا من تصورنا لحياتنا السابقة، ربما لو استمررنا حقيقة بلقائهم، لكانت تساقطت أوراق صداقتنا شيئا فشيئا مع الوقت.
لكن هناك، فى عاصمة الضباب، عاصمة المسرح والمتاحف، تتوق صديقتى المثقفة إلى وجوه وقلوب أليفة فتقول: «بدى حدا روح معه عالمسرح ولما تخلص المسرحية نحكى ونحللها مع بعض. وبدى حدا بعرفه من زمان، ما بدى أعمل أصحاب جدد».
كاتبة سورية