نشأ فى بيت متوسط لكنه بيت علم وفضل، كان جده من علماء الأزهر له مكانة رفيعة بين الناس مهابا مطاعا، أما أبوه فكان من أهل النجدة والنخوة شهما مهابا لا يفطر إلا إذا أحضر الأطفال اليتامى من جيرانه وبعد الطعام يمسح على رأس كل طفل.
التحق بالأزهر الشريف حتى تخرج فى كلية الشريعة سنة 1947 وهى أقوى وأصعب كليات الأزهر، عمل بالتدريس ثم مستشارا للنشر فى وزارة الثقافة ثم استقال نهائيا من الوظيفة.
رفض كل العروض المغرية لمناصب قيادية كبرى فى الدولة سواء فى عهد ناصر أو السادات كما رفض أسفارا يسيل لها اللعاب وآثر أن يبقى فى حياته المتواضعة التى غلب عليها الزهد.
التقى فى مقتبل حياته بشيخه «محمود خطاب السبكى» الذى فتح بصيرته على طريق التصوف الذى كان طريقه النهائى فى السير إلى الله بعد أن مر بمراحل ومنزلقات كثيرة، وكان يعتبر أن تلاميذ السبكى ظلموه ولم ينصفوه مثلما فعل تلاميذ جعفر الصادق وأحمد بن حنبل.
فى عهد الملك فاروق كتب «مواطنون لا رعايا» ليبين موقف الشعب من الملك وأنهم مواطنون لا مجرد رعايا له، كان شجاعا لا يهاب أحدا وفى نفس الوقت كان قمة أخلاقية سامقة، لا يعرف الحقد أو الغل أو الغدر أو التفحش.
أعجب ثوار يوليو بكتابه «مواطنون لا رعايا» وأعلنوا ذلك بعد نجاح ثورتهم، ولكنه آثر أن يكون بعيدا عن أى منصب أو من المترددين على أصحاب السلطة.
عندما ظهر له جليا توجه ثوار يوليو نحو الديكتاتورية وإلغائهم التعددية والديمقراطية تماما كان الصوت الوحى الذى ارتفع فى وجه الصمت والخوف وضد الإجراءات التعسفية التى طالت الكثيرين فقال فى اللجنة التحضرية سنة 1961 «أطالب بالعدل السياسى بدلا من العزل السياسى» وطالبهم بالديمقراطية وإطلاق الحريات العامة ولما تم التصويت على كلماته فى اللجنة كانت يده هى الوحيدة هى التى ارتفعت بالموافقة.
عارض فارسنا الإخوان المسلمين قبل ثورة 23 يوليه بسبب إنشائهم للنظام الخاص الذى قام بعمليات عنف واغتيالات وكانوا وقتها فى أوج قوتهم ومجدهم، فلما قبضت الثورة على الإخوان وأعدمت منهم من أعدمت طلب الثوار من كاتبنا أن يكتب كتابا ضد الإخوان فقال لهم :«لقد نقدت فكر الإخوان وسلوكهم يوم أن كان بعض قادة الثورة من مجاذبيهم، أما اليوم وهم فى السجون فقد أوصانا سيدنا الرسول «صلى الله عليه وسلم» بألا نجهز على جريح».
ويعد كتاب «من هنا نبدأ» أول كتبه وأشهرها وأول معاركة الفكرية الكبرى ورغم أن الشيخ محمد الغزالى رد عليه بكتاب «من هنا نعلم» إلا أن كاتبنا أحب الغزالى وأصبحا أعز صديقين، وكانت آخر مكالمة تلقاها قبل موته من الغزالى، وقد رجع أستاذنا خالد محمد خالد عن رأيه ولم يتكبر أن يعلن رجوعه عن رأيه فى كل المنتديات والمحافل وكتبه فى كتاب اسماه «الدولة فى الإسلام ورفض عروضا سخية لطبع «من هنا نبدأ» فرفض لأنه لا يباع ولا يشترى.
ورفض عرض ابنه محمد طبعه فى آخر حياته فاشترط عليه أن يضع مقدمة كتابه «الدولة فى الإسلام» فى مقدمة الكتاب، لأن الحق كان أغلى عليه من كل شىء ومن كل كنوز الدنيا.
وفى عام 1955 أخرج كتابه «لكى لا تحرثوا فى البحر» وضمنه فضلا عن ضرورة دمج المحاكم الشرعية فى المحاكم العادية وبدأت حملة صحفية كبرى بناء على كلماته أثمرت القرار الجمهورى بنقل اختصاصات المحاكم الشرعية والمجالس المحلية إلى القضاء العادى، ولما تحقق له وللصحف هذا النص انزوى ورفض الظهور لأنه زاهد فى الدنيا والمناصب.
ونفس الأمر حدث معه فى قضايا كثيرة وقوانين نادى بها وتحققت مثل قانون تنظيم السجون أو تحديد الملكية الزراعية بمائة فدان أو تكوين نقابة للفلاحين أو اعطاء العمال ربع الأرباح، فلم يشمخ بنفسه أو يبغى بها أجرا أو منصبا بل انزوى بنفسه واعتكف فى بيته.
ولما وجد أن بعض هذه القوانين تحول من نعمة إلى نقمة لم يستنكف أن يعلن أن الإصلاح الزراعى لم يتوافر له من الرحمة والعدل ما كان يجب ويمكن أن يكون، وأعلن «كنت خصما للإقطاع قبل الثورة يبد أن الأمل خاب حين رأينا شهوة الانتقام والتشفى تغشى هذا الانجاز العظيم، فلا تفرقه بين من ورث الأرض لقمة سائغة ومن اشتراها بجهده ورواها بعرقه.
وقد دعاه د/سميث «مدير معهد الدراسات الإسلامية بكندا» ليشغل منصب أستاذ زائر لمدة عامين فاعتذر مرات مع تعدد العرض.
كان يرى أن الإسلام هو الحب، وكان يحب شهر ربيع الأول حبا فى رسول الله حيث كان يستشعر الدفء والأمان فى رحاب ذكراه أو الكتابة عنه، وكان يحب صوت الشيخ العطوانى فى قصيدة البردة التى كان يعشقها، ومن الأقدار العجيبة أن هذه القصيدة أنشدت أثناء جنازته حتى أوصلته لمثواه الأخير، وكان معجبا بغناء أم كلثوم لبردة البوصيرى وتأثر ببكائها وهى تشدو:
أبا الزهراء قد جاوزت قدرى بمـدحك بيـد أن لى انتسـابـا
وفى آخر ذكرى لمولد النبى «صلى الله عليه وسلم شهدها كاتبنا كتب: «سيدى خاتم المرسلين وشرف العالمين لست بهذه الكلمات أبكى حظوظنا العاثرة ولا حياتنا الخاسرة فإننى كلما ذكرتك لا يشغلنى عنك شىء.. ألا ما أشقى الذين ضلوا عن سبيلك وآثروا الظلام على سبحات نورك».
وكان يحب أهل البيت ولم ينقطع عن زيارتهم طوال حياته، وكان الحديث الأثير عنده هو الكلام عن أهل الله وأصفيائه وأحبابه».
وكان وفيا مع أصدقائه حتى فى محنتهم، فكان يزور أسرة الشيخ سيد سابق بعد سجنه ويأتيهم بالطعام ويصطحب ابنه الصغير للتنزه، وحينما سجن صديقه وجيه أباظة وابتعد عنه الصغير والكبير لم يفعلها كاتبنا بل ذهب إليه بعد خروجه وأخرج خمسمائة جنيه وكانت مبلغا كبيرا وقتها، وقال لهم إنه أخذها فورا من أحد ناشرى كتبه وهو لا يريدها ولكن وجيه رفض قائلا «مستورة والحمد لله».
وكان من دأبه أن إذا تولى أحد أصدقائه منصبا ابتعد عنه فى هدوء، وعفت نفسه أن يستفيد منه فإذا انزوت عنه السلطة وتناكر له الناس كان أول من يطرق بابه.
وكان متصوفا بحق ويردد دائما «أنحني اجلالا للتصوف فهو الذى سكب فى روحى كل ما روى ظمأها إلى الخير والسكينة والرحمة والعدل».
وهو أعظم من كتب عن الخلفاء الراشدين، وعن معجزة الإسلام عمر بن عبدالعزيز وأفضل من كتب عن الصحابة الكرام، وهو ثانى من كتب عن المسيح بعد العقاد، وقد استنكر غزو صدام للكويت ونافح عنها منافحة شديدة، فلما تحررت حاولت الكويت مكافأته وتكريمه فرفض بإباء، لأنه يرفض أن يتكسب من مواقفه وأطروحاته فى حين هرول الجميع شعراء وكتاب وساسة للكويت حصدا للغنائم، وكان من أعظم الدعاة للعدل السياسى والاجتماعى وأفضل من كتب عن الديمقراطية والحرية.
رحم الله ذلك العبقرى الذى لم تنجب مصر كاتبا يجمع بين الدين والحياة والأصالة والمعاصرة، وثوابت الدين ومتغيراته فى أسلوب رائع سلس من السهل الممتنع الذى لا يستطيع أحد محاكاته أو مجاراته، وجزاه عن الإسلام والأوطان والأديان خير الجزاء.