يوميات الحجر سهلة الكتابة، أيام الحجر كلها متشابهة، ساعات الحجر تنهمر الواحدة تلو الأخرى برتابة وتأنٍ، كل يوم يشبه اليوم الذى سبقه، حتى أن أسماء الأيام اختلطت علىَّ ولم يعد يهمنى إن كان اليوم هو الأحد أو الإثنين أو الجمعة، وضعت لنفسى نظاما صارما يحدد يومى بالكامل بكل تفاصيله، حتى دخول شهر رمضان لم يحرك نظامى إلا قليلا، بدأ يومى وكأنه قاعدة بيانات فيها خانة لكل ساعة من ساعات اليوم كتبت فيها تسلسل الوقت كما قسمته على اليوم، حتى أننى صرت أجلس فى نفس الأماكن فى البيت حسب العمل الذى أقوم به، فأكتب مقالى من على الكرسى الأزرق وأشرب القهوة من على الكنبة أمام الشباك، وأقطع حديثا الساعة الواحدة حتى أستمع إلى برنامج افتراضى صرت من متابعينه.
***
هكذا اختفى عنصر المفاجأة تماما من حياتى، بما أننى قسمت يومى إلى خانات أرسمها كل أسبوع على ورقة وألصقها على حائط أمامى؛ حيث أجلس يوميا للكتابة، لا يفرق يوم عن سابقه ولا يفاجئنى أى تغيير فى أى يوم من أيام الحجر، روتين صارم أدير به حياتى فأعرف تماما ما أتوقع وما سوف أنشغل به.
***
أما خارج يومياتى وبعيدا عن زاويتى الضيقة، فثمة مجهول كبير يبتلع العالم، الكرة الأرضية أصبحت كقصة سيدنا يونس، كرة أرضية ابتلعها الحوت، داخل الحوت سواد يعمى البصيرة والقلوب، ها هى الدنيا برتابتها تترنح فى جوف سمكة عملاقة، تتحسس طريقها وتبحث عن بصيص من النور خارج الحوت ولا تراه، هكذا إذا بتنا نعيش أيام لا مفاجآت فيها وسط فراغ كبير لا إشارات مفهومة فيه، هناك تناقض عجيب بين ما أسيطر عليه وما أسبح فيه وأنا أحاول ألا أغرق!
***
ثمة تناقض آخر ألمسه منذ أسابيع فى الخطاب العام المتعلق بالحجر والأزمة الصحية العالمية التى رمت بالبشرية كلها فى جوف الحوت: هناك من يعتقد أن جائحة كورونا قد فرضت أخيرا على الناس أن يركبوا زورق نجاة واحدا وأن يصبحوا سواسية، وكثرت رسومات الزورق للدلالة أن الإنسانية بأجمعها تحاول النجاة من الغرق، ربما يجلس الجميع فعلا فى جوف المجهول فى الظلام، ربما قفز الناس كلهم فى زوارق كتلك التى رأيناها تعبر باللاجئين البحر الأبيض المتوسط فى السنوات الأخيرة، ربما قفزنا جميعا من قمة جبل فى الفراغ، أو بالأحرى دفعنا أحدهم إلى الفراغ كلنا معا.
***
لكن يلبس البعض سترة النجاة ويتعلق بحبال متينة قد تخفف من أثر ارتطامه بالأرض، يمسك البعض بجهاز تحكم عن بعد يرسل من خلاله استغاثة، استطاع البعض أن يرتب بعض الأساسيات فى شنطة أخذها معه فى الرحلة، نعم نحن جميعا فى جوف الحوت المظلم إنما ثمة ترف حتى هنا على زورق النجاة.
***
لا شىء يحرك هواء الحجر، لا وجه جديد، لا رائحة تأتى من بيت الجيران فأمشى خلفها متسائلة عن وجبتهم اليومية، أشعر أننى فى متحف للشمع لم أعد أرى التعابير على وجهى وعلى وجوه الغير، لقد توقف العالم عن الدوران لكنه لم يتوقف عن الترنح، الصغير ثابت والكبير ينهار، لا مفاجآت يومية ولا ثوابت فى المطلق، أسيطر على ما يحيط بى بشكل مباشر ولا قدرة عندى أن أفرش سلطتى أبعد من ذلك، رتابة مباشرة ومجهول يغلف كل ما أعرفه وكل ما بنيت عليه معرفتى منذ سنوات.
***
داست الحروب على بلدى وعلى ما حولها فغيرت المعالم وتلاعبت بذكرياتى حتى صرت أقوم بتمارين للذاكرة شبه يومية: أين كان رف التوابل فى البيت؟ شجرة الليمون هل كانت على الجانب الأيمن أو الأيسر فى الحديقة؟ متى تزوجت بنت الجيران، إذ أننى أذكر ضوضاء فى مدخل العمارة ربما حين كنت أحضر لامتحانات السنة الأخيرة فى المدرسة.
***
الآن يرمى الحوت بذيله العملاق على تفاصيل حاولت أن أرمم بها ذاكرتى القريبة، ذاكرة السنوات الأخيرة، يضرب يمينا ويسارا فتنهار بعض المسلمات ولا أعرف كيف أرممها سوى بالتمسك بنظام يومى صارم أحافظ به على عالمى وأستمد منه، أى من النظام الصارم، بعض الثبات، لا أبوح بهذه الأفكار إذ أعى أن فيها الكثير من الترف، خصوصا بالمقارنة مع من داست عليهم الحروب والجائحة كالمدحلة، من أنا بنظامى الصارم حتى أقارن هول المجهول خاصتى بمجول يأكل قطعة من جسدهم كل يوم؟
***
أشعر أن الحياة اليومية صارت كثقالة الورق الزجاجية التى تحمل داخلها منظرا للشتاء أو لملعب أطفال: لا شىء داخلها يتحرك، لكن إن هززتها فتتطاير قطع الثلج فوق كل شىء وتغطيه، رتابة وغياب المفاجأة طالما لا أحرك شيئا فى يومى فأسيطر عليه كأننى أمسك بالثقالة الزجاجية، أما اليد التى تمسك الثقالة فباستطاعتها أن تقلب كل الموازين. اليوم أنا داخل الثقالة حيث لا يتحرك شىء، لكن الثقالة داخل جوف الحوت حيث كل شىء أصبح واردا.