فى إحدى المدن النائية فى أمريكا الشمالية التى ساقه إليها القدر منذ ست سنوات، يدنو نحو أريكته فى غرفة المعيشة، يجلس ويقلّب فى القنوات وفى الشبكات التلفزيونية المختلفة فلا يجد ما يجذبه، يغلق التلفاز، ويفتح جهاز الحاسب الخاص به، يجد فيديو مسجلا لمدة ساعة لفتاة أجنبية تقوم بتصوير العاصمة الآسيوية التى عاش فيها لثمانية أعوام قبل عقد من الزمان، الفيديو ساكن، صاحبته تتجول صامتة فى شوارع العاصمة الآسيوية بينما يهطل المطر بغزارة، الفيديو يحمل وسم «الضوضاء البيضاء» وهو وسم محتواه مخصص للاسترخاء، يقوم بخفت إضاءة غرفته، ويجلس مستمتعا بمشاهدة أكثر مدينة محببة إلى قلبه بينما تغمرها المياه، يتذكر أنه قد مر فى هذه الشوارع تحت نفس الأمطار واستمتع بهذا الهدوء والسحر الربانى قبل عقد من الزمان، يا إلهى كيف مرت الأيام بهذه السرعة؟!
بينما هو مستغرق فى المشاهدة والاسترخاء، يتذكر أنه سيحتفل بذكرى ميلاده الأربعين بعد أسابيع قليلة، يتحول الاسترخاء إلى شجن وحنين إلى الماضى، تتداعى فى رأسه عشرات الأسئلة عن هذا العقد الذى مر بسرعة دون أن يشعر، عن هذه الأحداث الكثيرة التى عايشها والتى وعلى الرغم من غزارتها، لكنه يكاد ينساها ولا يتذكر الكثير من ملامحها، عن سنوات الصعود والهبوط، عن الأصدقاء الذين غيّبهم الموت أو فقدوا حريتهم، عن شخصيات كانت ملء السمع والبصر ولكنها توارت، عن أبطال من ورق باعوا أنفسهم وأفكارهم لمن يدفع أكثر أو لمن يملك القوة، عن مواهب تم حجبها، عن مدعين تم تصعيدهم وتنجيمهم، عن طاقات أهدرت، وموارد بددت، وأحلام وئدت، وأمنيات تلاشت، وطموحات تواضعت، وحياة انقلبت رأسا على عقب، كان يسمع دائما أنها سنن الحياة، لكن من سمع، ليس كمن عاش!
***
قبل عشر سنوات فقط كان يستعد لمناقشة درجة الدكتوراه فى كلية القانون فى الجزيرة الآسيوية التى أمضى فيها فترة العشرينيات من عمره، كان محتارا بين أن يستقر أو يعود إلى وطنه الأصلى، بعد شهور قليلة قام حدث عظيم تغنى به العالم وشعر أن هناك فرصة جديدة وعالما مختلفا، عاد ليشارك فى البناء كما تصور، أخلص وسعى، رغم حدة المنافسة سرعان ما أثبت أحقيته فى فرصة، وبعد عام واحد من العودة، لم يندم على قراره، اعتقد أنه القرار الأهم فى حياته، ها هو يشهد التاريخ، وربما يساعد فى صنعه حتى لو من الهامش، انخرط فى العمل البحثى وتلامس مع العمل العام، كان حدسه يخبره أن السياسة تحرق، تأخذ أكثر مما تعطى، تستنزف، تستقطب، تُحمل فواتير تقيد الاستقلالية والحرية، فبقى على مساحة آمنة منها رغم إغراءاتها!
تذكر كيف وأنه وفى خلال عام ونصف فقط من العودة سافر سبعة بلاد فى ثلاث قارات مختلفة، رحلات عمل ودعوات من محافل أكاديمية وبحثية لأن العالم كان ينصت أكثر مما يتحدث، يريد أن يفهم هذا الواقع الجديد الذى تحقق على الأرض، كيف أنه وفى وقت قصير أصبح أستاذا محبوبا من طلاب وطنه، وطلاب من خارج الوطن كان يُدعى ليقوم بتدريسهم بعض الفصول الدراسية المكثفة، مهنة التدريس وخصوصا الجامعى وفى ظرف كهذا مهنة ممتعة، أشعرته أنه يساهم فى بناء وعى جديد، جعلت له امتدادات فكرية ودعائم شعورية ووجدانية، تذكر أنه ذات مرة وبينما كان عائدا من إحدى الحلقات التلفزيونية التى حل فيها ضيفا نظر من نافذة السيارة وتأمل شكل الوطن الجديد، شعر أن هذا الحال الجديد لا يمكن أن يُهزم، اعتقد أن له قوة دفع ذاتية تجعل نجاحه حتميا، لا يمكن أن يعود التاريخ إلى الوراء، لابد أنه من جيل محظوظ لأنه يعيش هذه الأيام، هكذا حدّث نفسه من فرط سذاجته!
بعد أقل من عامين بدأ الوضع يتغير، والأحوال تتبدل، تزايدت حدة الاستقطابات، سادت لغة التخوين، تعرى من تصدر للمشهد وظهر على حقيقته، هم كما من سبقهم، نفس العقليات وضيق الأفق ونفس الأنانية والجشع وانعدام الضمير، كانت المساحة العامة ما زالت موجودة ولكنها أصبحت مسمومة، ساد العنف اللفظى والجسدى، بدأ المشهد يتهاوى على نحو غير مسبوق، الكل تساقط، ونزل الشعب مطالبا بالتغيير مرة أخرى!
كانت اللحظة مربكة، والحسابات مختلطة، الناس فقدوا الثقة فيمن تصدر المشهد، أرادوا العودة إلى ما سبق، إلى ما يعرفونه، هذا أكثر أمنا واستقرارا، لا معنى لتضحيات بلا طائل، ولا لثقة فى غير محلها، عاد العنف ليسود المشهد، تصاعد الإرهاب وتكاثرت الدماء، وتزايدت الحوادث الطائفية على نحو مقيت، كانت نهاية حزينة لحقبة بدت واعدة، لكن أفولها كان أسرع بكثير من المتوقع، ربما ما توقعه هو!
حاول الانكفاء على نفسه، التركيز مع أطفاله الذين لم يعطهم وقتا كافيا من قبل، الإخلاص لبحثه وطلابه، حافظ على حد أدنى من التماس مع الشأن العام، لكن لم يكن أحد ليسمع، طالما ساد العنف والإرهاب، انتهى الحوار وانتهى التعقل ولم يتبقَ سوى لغة القوة، أخذت الحياة تضيق، والمساحات تتلاشى، الأذان صُمت، والعقول توقفت، والضمائر تعطلت، والمشاعر تجمدت، وفى ظل صراع إقليمى استخدمت فيه كل الأدوات والحيل والمؤامرات للسيطرة وتغيير المعادلات لمصالح خارجية أو ذاتية لا لمصالح وطنية، لم يكن هناك حلول وسط، لم يعد هناك استقلال أو حياد، أنت معنا أو علينا، قالها الجميع بلا استثناء، فقرر طواعية الرحيل!
***
عالم جديد وقارة جديدة، ليس الشرق كالغرب، لا يمكن مقارنة السحر الآسيوى بالواقعية والبراجماتية والمادية الغربية، الروح غير الروح، والناس غير الناس، لكنه قرر أن يخوض التجربة، لقد نجح فى آسيا من قبل، فلماذا لا يكرر النجاح؟! لم تكن المنافسة هينة، هذا الاسم الذى لمع فى وطنه، كان نكرة فى العالم الجديد الذى اختاره، كان عليه أن يبدأ من الصفر، الصفر وظيفيا والصفر علميا والصفر مجتمعيا، لا الأدوات كما الأدوات، ولا الرؤية هى الرؤية ولا المنهج هو المنهج ولا اللغة هى اللغة، لم يكن الأمر سهلا، كان العمل يتضاعف، الضغوط تتزايد، عالمه الجديد بلا شفقة، ولا سند، ولا ظهير اجتماعى، الكل يجدّف منفردا، إما أن تصل للجزيرة التى تتوسط المحيط، فتلتقط أنفاسك ثم تواصل التجديف أملا فى الوصول إلى الشاطئ البعيد حيث الاستقرار والسمعة والمادة والإنجاز والاسم، أو أن تغرق فى الطريق ولن يبكيك أو ينعيك أو حتى يلتفت إليك أحد!
فى عالمه الجديد ترك أطفاله، لم يكن ليراهم سوى مرة فى العام حينما يزور وطنه طمعا فى إجازة هادئة، لكنه لم يكن يحصل عليها، النفوس تتغير، والمشاكل تتراكم، والمشاعر تتبدل، والهموم تتزايد، والوجوه تتكهل، والخوف يطبق، من توافر له صنع فقاعته الخاصة فعل، ومن لا تتوافر له قرر التسليم بالأمر الواقع ومواجهة القدر، لا الأصدقاء هم الأصدقاء ولا الحياة هى الحياة!
أسابيع قليلة ثم يودع الوطن والأحباب ويعود إلى غربته ليكمل الطريق، مر عقد من عمره دون أن يشعر به، سُرقت آماله وأحلامه خلسة دون أن يشعر، تجمدت مشاعره وسلّم للقدر، هنا يقرر أن يبدأ فى التجديف مجددا، تعلو الأمواج كثيرا حتى يغيب الأفق أحيانا، لكنه لا يستسلم، يعافر ويقاوم وما زال يجدف حتى لا يُسلب عقد آخر من عمره أو هكذا يتمنى!
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر.