تشرح لى صديقة عربية تعمل فى إحدى المؤسسات الطبية المرموقة فى مدينة نيويورك عن طبيعة عملها فى مجال التقارب الثقافى، فتقول لى إنه وبسبب زيارة عدد غير قليل من العرب لمؤسستها، فقد قررت الإدارة أن توفر متحدثين باللغة العربية بشكل دائم كجزء من فريق العمل فى المؤسسة، ليس فقط للعمل كمترجمين بين الزبون والمؤسسة وإنما أيضا كوسيط ثقافى بين الطرفين، بحيث يتم أخد بعض الأمور بالاعتبار مثل نوعيات الطعام المقدمة أو بعض التقاليد فى السلوك الاجتماعى حرصا على تفادى سوء التفاهم الذى قد ينتج عن عدم وعى بثقافة الآخر.
تروى لى صديقتى عددا من المواقف الطريفة أو الحساسة التى حدثت بسبب الاختلافات الثقافية فأهز رأسى لأن أغلبها يشبه ما سمعته أو شهدته فى حياتى المهنية أيضا، إلا قصة واحدة. قالت صديقتى إن إدارة المؤسسة اتصلت بها يوم عطلتها واستدعتها للمساعدة الطارئة فى موقف معقد لم تجد الإدارة طريقة لمعالجته، وقد سارعت صديقتى بالتوجه إلى مقر عملها آملة ألا تكون حياة أحدهم فى خطر. عند المدخل رأت صديقتى عربة إطفاء وعددا من زملائها يتشاورون فيمن بينهم، نظروا إليها وقالوا بلهفة «تدخّلى قبل فوات الأوان فنحن نخشى أن يتسبب أى تصرف منا بإهانة قد لا تكون فى مكانها». دخلت صديقتى إلى غرفة الضيف العربى فرأت أنه قد أشعل فحما داخل غرفته من أجل أرجيلتين (شيشة) وأنه قد دعا صديقين لمشاركته جلسة الدخان بينما المحاليل الطبية لا تزال معلقة بجسمه الذى يخضع لفحوصات طبية، بينما الدخان يغطى سقف الغرفة ورنين إنذار الحريق يصدح من حولهم.
***
أدفع عربة طفلتى الصغيرة فى شارع مزدحم خلف رجل يمشى مع ثلاثة كلاب صغار الحجم من ذوى الفروة البيضاء. تفرح ابنتى ذات العام الواحد بمنظر الكلاب فهى ربما تراهم يشبهون اللعب. تمد يدها الصغيرة نحوهم وهى تنادى وتحرك يديها وقدميها. يضطرنا اكتظاظ الشارع أن نسير ببطء خلف الرجل وكلابه. كنت قد رأيت الرجل يخرج من مكان خاص بتربية الكلاب، ففى نيويورك يختار بعض من يملكون حيوانات أليفة أن يوصلوها إلى مكان يشبه روضة الأطفال فى الصباح بدل من أن يتركوها فى البيوت وحيدة أثناء ذهاب أصحابها إلى العمل.
تستمر طفلتى بمحاولة جذب انتباه الكلاب، إلى أن يلتفت نحونا الرجل ويقول لى ولطفلتى بحدة: «أرجوك كفى عن إزعاج الكلاب». انظر إلى الرجل باستغراب واسأله عما يعنيه فيرد بحزم «ابنتك تزعج الكلاب بصوتها». أظنه يمزح فأقول «هنا فى هذا الشارع المكتظ مع مرور سيارة الإسعاف ترى أن ابنتى بأصواتها الطفولية تزعج الكلاب؟ أليسوا من الحيوانات الأليفة؟» يرد الرجل «هم مثل أى شخص، قد لا يفضلون التواصل مع الآخرين فى بعض الأحيان لذا فرجاء أن تقولى للطفلة أن تكف عن محاولة الحديث معهم». دون حتى أن أفكر، أنظر للرجل وأقول: «سوف أقوم بتصويرك مع الكلاب وأنشر الصورة على مواقع التواصل الاجتماعى ليتعرف أصحاب الكلاب عليهم وسوف أقول أنك تصفهم بعدم الاجتماعية». ينتفض الرجل أمامى مدافعا عن موقفه «أنا لم أقل إنهم كلاب غير اجتماعيين، أنا أدافع عن مزاجهم الذى قد لا يكون الآن فى حالة تسمح بالتواصل الاجتماعى مع طفلتك».
***
أطلب القهوة فى محل فيسألنى البائع عن الحجم الذى أريده. «الحجم العادى، الوسط». يسألنى عن نوع الحليب الذى أريده. «عادى» أجيب. «كامل الدسم، نصف دسم، خالى الدسم، حليب الصويا، حليب اللوز؟» يسأل بنبرة مستغربة. أجيبه أننى أريد حليبا كامل الدسم. «باردا أم ساخنا؟» يسأل. أجيبه أنه لا يهم. «هل تريدين أى نكهات إضافية؟». هنا أتساءل إن كان البائع يقصد تضليلى أو لو كنا جزءا من أحد المواقف الكوميدية. إلا أنه يضيف: «كما تعلمين فإن بعض منتجاتنا تحتوى على الفواكه الجافة والجوز واللوز، ونحن نخبز كل شىء فى نفس المكان فقد تكون ذرات من الجوز واللوز قد وصلت إلى بعض المخبوزات الأخرى».
أعود بسرعة لمواقف صادفتنى فى شهورى الأولى فى نيويورك منذ سنوات، حيث تساءلت مرارا عن تطور القوانين التى تحمى المستهلك وقوانين الصحة التى تحاول ضبط أى ممارسات قد تسبب أضرارا صحية، بما فى ذلك واجب موظفى المقاهى والمطاعم أن ينبهوا الزبون إلى إمكانية أن يكون المطعم قد استخدم مادة لا تناسب وضعه الصحى أثناء إعداد الطعام.
أفكر فى كمية الخيارات والقرارات التى أحتاجها كى أرتشف فنجان القهوة فى نيويورك وأسقط ذلك على الخيارات المتاحة فى بلد لسكانه خلفيات ومعتقدات متنوعة لكنهم مقتنعون بحقهم فى اختيار القهوة التى تناسبهم، بل وفى وجوب أن يقدم المطعم خيارات من بينها ما يناسبهم. من حقهم أن يثقوا بمستوى نظافة الأماكن والتزامها بالمعايير الصحية والقانونية، من البديهى أنهم سيجدون تفهما عند البائع أو صاحب المكان حين يطلبون طبقا يتفق مع معتقداتهم أو مع قواعد صحية يتبعونها. من البديهى أن تتسع القهوة للجميع ومن البديهى أن تكون هناك خيارات ومن البديهى أن يعبر الزبون عن رغبته ضمن الخيارات المتاحة ومن البديهى أن يحاول البائع بقدر المستطاع احترام هذه الرغبة. أما أنا فأتناول فنجانى العادى ذى الحليب العادى وأخرج من المقهى وأنا أفكر فى ثقافة الزى الموحد والفكر الموحد التى أسمع أنها تسود فى بلاد بعيدة.