على منضدة خشبية مغطاة بقطعة من المشمع السميك المزخرف بصور الفاكهة والأزهار، جلست أمام استمارة الرغبات. ظهرت نتيجة امتحانات الثانوية العامة وحصلت على مجموع يؤهلني لاختيار أية كلية. لاحظ أبي وجومي فسألني:
- هتقدم في أي كلية؟
- مش عارف.
- يعني إيه؟ ما فكرتش قبل كده؟
- الحقيقة لأ.
ارتسمت على وجهه أمارات الدهشة، لكنه رحمه الله كان رفيقا بي فلم يشأ أن يزيد الطين بله، وتركني لحالي دون تعليق.
اتذكر القصة وغيرها مما خجلت دائما من حكايته للآخرين. فكلها قصص لا ترجمة لها في العرف العام إلا أنني كنت شخصا عديم الطموح لا يعرف ما يريد.
بعدها بسنوات وعندما كانت تجرى معي لقاءات تتلمس تجربتي في إطار ما تقلدته من مناصب، كنت أتردد في الإجابة على أية أسئلة يحاول المحاور بها أن يستشف من تجربتي ما يصلح أن يكون عبرة للأجيال الشابة: تخطيط بعيد المدى، طموح مستعر للوصول إلى القمة، رغبة محمومة في الترقي.
كنت في سنوات التلمذة لاهيا عن هذا كله. وبينما كان كثيرون من أقراني مشغولين بالدروس الخصوصية، كنت أتردد بين المكتبة الأمريكية والألمانية، وأتابع برامج السينما في المركزين الإيطالي والفرنسي ومعهد جوتة. كنت أشعر بتأنيب الضمير، وأشك في أنني مقبل على فشل محقق. لكنني كنت عاجزا عن أن أفعل شيئا آخر.
اهتممت بالرسم، والكاريكاتير، وكتبت الشعر، والقصة القصيرة، ومارست التمثيل وإخراج مجلات الحائط على حساب ساعات الاستذكار. هل كان تنوعا في الاهتمامات أم عجزا عن تحديد الهدف؟ لم أعرف. ولكنني كنت أشعر بتأنيب الضمير وبأنني أرتكب خطأ ما.
أتذكر صباحا صيفيا تناولت فيه القهوة مع زميل عملت معه في صحيفة لندنية. ائتمنني فحدثني عن خططه للترقي ثم سألني عن طموحاتي. لم أفهم سؤاله فحاول مساعدتي: أن تصبح رئيسا لقسمك مثلا؟ أن تكون رئيس تحرير؟ أجبته كما أجبت أبي: "لم أفكر في الأمر". نهض غاضبا لسبب لم أدركه وتركني هو يغمغم "إنسان عديم الطموح".
لم أخطط لحياتي ولم أضع أهدافا مرحلية أو نهائية. كنت ألعب وانتقل من محطة إلى محطة حسبما يتراءى لي. ترددي في الحديث عن "مسيرتي" كان رغبة في ألا تبدو بعض محطاتها البارزة كما لو كانت نتيجة صدفة أو حظ، وخوفا من أن تضلل حكايتي بعضا ممن هم في أول الطريق، فيحيدون عن "درب الاجتهاد والجد"، إلى لعب ربما لا يقودهم إلى شيء فيؤنبني ضميري أكثر.
فقط منذ أيام، وبعد جلسة تأمل في حصاد السنين أعقبت احتفالي مع أصدقاء بعيد ميلادي، عرفت كم كنت مخطئا عندما تصورت لوهلة أن هذا الاستمتاع وحب المعرفة والانجراف وراء التجربة، والشغف بالجديد كان خروجا عن النص المطلوب.
أدركت أنني رغم اختياري في الأغلب لطرق غير مألوفة إلا إنني لم أنجح تماما وعلى مدى سنوات طويلة، في أن أتخلص من عقدة ذنب المارق أو المنشق، عن مجتمع يرى أن السير خلف القطيع هو السبيل المأمون لتحقيق الآمال.
تحقق في حياتي كثير مما سعى له آخرون من منصب أو جاه وبعض من شهرة. لكنها لم تكن أهدافا في حد ذاتها، ولم تكن هي ما سعيت إليه. تحققت كنتيجة غير مباشرة لذلك اللعب وهذه الرغبة في التجريب.
مع ظهور نتائج الثانوية العامة سيظن كثيرون أن مكتب التنسيق يرسم مستقبلهم. ليس هذا صحيحا. مستقبلك تصنعه أنت، ويصنعه اهتمامك باللعب والتجريب والاستمتاع. سواء كان هذا في المعهد الذي انتهيت إليه أو في مجالات أخرى تشعرك بالسعادة والتحقق. حافظ على شغفك واقتل تأنيب الضمير.