تتلخص حياتها فى كلمتين «الصبر الجميل» «خدمة الناس والإصلاح بينهم» وقد ورثت ذلك عن جدها وجدتها، فقد كان جدها أحد علماء الأزهر يكتب فى المجلات الإسلامية، كان حمالا لهموم أسرته، يقضى حاجاتهم، يحل مشاكلهم، يصلح بينهم، ينقذهم من براثن المشكلات وقد تأثرت به إيمان، ولعل جيناته هذه انتقلت إليها، فالإنسان هو ابن جيناته وبيئته كما نص العلماء الأقدمون، وكما قرر الطب الحديث.
وقد تعلمت أن تسع الناس من جدتها لأمها؛ حيث كانت هذه الجدة تسع كل سيدات الأسرة بكل ما تحمل الكلمة من معنى وتحل مشاكلهم.
نشأت يتيمة حيث توفى والدها وهى فى الثالثة ولكن الله رزقها بزوج أم فاضل المهندس الفيومى الذى أغدق عليها من محبته وحنانه ورحمته وكان يعتبرها قدوة لبناته، وبلغ من رحمته أنها تعرضت لحريق وهى فى المطبخ فسارع لإنقاذها حتى نجت وأصيب بحروق شديدة، وقد أكرم وفادتها وبادلته هى نفس الحب والإخلاص والمودة.
وقد خبرت الحياة فوجدت أن زوج الأم يكون أكثر رحمة وسعة عقل من زوجة الأب التى يضيق صدرها عن أى طفل غير أولادها وقد تظلمهم كثيرا.
كانت متفوقة فى كل شىء فى العلم حتى تخرجت من أرقى الكليات «الاقتصاد والعلوم السياسية»، وفى الرسم حتى شاركت فى مسابقة فى الهند، وكانت لها أذن موسيقية راقية.
وكانت من أوائل من لبسن الحجاب فى منطقتها وكليتها بدأت بالنقاب ثم وجدت أنه لا يناسبها ويمثل عبئا عليها ووجدته نوعا من التزيد الذى يثقل كاهلها فرجعت إلى الحجاب دون معركة أو ضجيج أو دعوة لغيرها لخلعه، فهى تكره التزيد فى الحالتين، وتكره المعارك والصراعات، وخاصة الاجتماعية والسياسية والدينية، كانت تحب السلام كله.
الصبر الجميل هو المكون الرئيسى لشخصيها وصدق زوجها د/كمال حبيب بقوله «لقد تحملت فقرنا وحاجتنا واعتقالى عشر سنوات» ولا يعلم سوى الله ــ ومن خبروا هذه التجارب المؤلمة ــ آلام الجرى وراء زوج معتقل خلف الأسوار لعشر سنوات، إنها تحتاج لصبر لا حدود له، وهى التى ساعدت زوجها للتحضير للماجستير وهو فى محبسه وما أدراكم بطلبات السجين فهى من الإبرة إلى الصاروخ.
كما تحملت حماتها التى كانت تختلف عنها تماما فقد كانت عصبية وتستبطن رفض هذه الزوجة التى لا تعرفها من قبل، فما زالت بها المرحومة إيمان تستوعبها وتمتص غضبها اللامنطقى وتبرها وتودها حتى أحبتها.
واستطاعت أن تربى خمسة رجال طبعتهم بروحها المتسامحة وحببتهم فى العلم والثقافة حتى قال الجميع إنهم نفحة من روحها فبعضهم عمل فى BBC دون واسطة وبعضهم فى الصحافة وآخرهم منة الكاتبة المتألقة سر أمها.
لقد كان لهذه السيدة فيض إلهى خاص جعلها تسع الجميع وتصبر على الهموم الكبرى، فقد كان بيتها مفتوحا للمكروب والمحتاج.
ولك أن تتأمل كيف عاشت أربع سنوات مع ذلك الوحش الكاسر السرطان دون أن يبدو عليها الانكسار أو الهزيمة حتى عاشت حياتها بطريقة عادية، تكتب وتطبخ وتغسل وتشارك أسرتها فى مناسباتها الاجتماعية.
لقد احتارت الأسرة فى كيفية إخبارها بما قاله الطبيب بعد عامين من علاجها «الطب وقف عند هذا الحد ولن يقدم شيئا جديدا»، فلما أبلوغها بذلك بالتدريج إذا بها تستقبله برضا نادر وثبات عجيب، أتبعته بممارستها للحياة كاملة دون توقف، حتى عجب أ.د/هشام الغزالى عبقرى الأورام الشهير حينما علم بحياتها بعد عامين من قوله الأول.
وفى أيامها الأخيرة أصرت على الخروج من مستشفى الدمرداش لحضور خطبة ابنتها الكاتبة «منة» كأنها تودع الحياة وتختلس منها لحظة سعادة قبل العودة للمستشفى آخر اليوم ثم وداع الحياة، أبت أن تنكسر، كتبت وهى فى شدة مرضها قرب شهر رمضان ما زال فى العمر بقية حتى أصوم.. إلخ.
حول كلمتها الشاعر محمد السيد إلى شعر فقال «ما زال فى عمرى بقية، لأرد عاريتى نقية، ما زال بين يدى وقت لأشكر الأيدى العلية، ما زال طرفى ذاكرا وتزال أورادى ندية، صمنا وصام قبيلنا ولنا بفرحتنا عطية، استودع الله الأحبة من قرينى أو بنيه، يا نفس عودى للذى أرضاك راضية رضية.
أما بالنسبة لعقل وقلم المرحومة إيمان المقدوسى فقد كانت من العقول المتميزة داخل الحالة الإسلامية، ولها قرابة ستة كتب كلها تدور حول الجانب التربوى، العلاقة السوية بين الزوجين، حل المشاكل الاجتماعية، كانت ترى أن المرأة هى التى تجمع أو تفرق.
من القلائل اللاتى جمعن الحضارة الغربية والإسلامية والعربية، بدأت بالكتابة فى المختار الإسلامى فى السبعينيات، وكان رئيس تحريرها حسين عاشور مكتشف اللآلى وقتها، وتنبأ لها بمستقبل باهر، ثم أعدت برنامجا لحلمى الخولى فى إذاعة القرآن الكريم ثم كتبت فى الوعى الإسلامى، مجلة هاجر، كانت تدافع عن المرأة العادية، وتحب من يدافع عن المرأة، كانت تحل مشاكل النساء والفتيات دون مقابل مهما كلفها ذلك من وقت، بدأت بعلوم التنمية البشرية قبل أن يظهر فرسانها الكبار أمثال الفقى وعمرو خالد وغيرهما، لم تتربح يوما من ذلك.
أثرت فى جيل كامل من الفتيات والزوجات، كانت تكره فكرة العقل الفردى للزوجات الذى يقود للتضحية بالزوج والأولاد، كانت تكره الصراع، وتكره الدخول فى عالم السياسة، كانت تهتم بالإصلاح الاجتماعى والأسرى لأنه نواة الاجتماع البشرى، كما قاومت الحب الرومانسى، العشق المحرم، العلاقات العاطفية قبل الارتباط الشرعى، قضايا أخرى كثيرة.
قالوا عنها «لم نر فى حياتنا أحدا حافظ على صداقاته المتشعبة مثلها وجعلها دوما برابطة المحبة لله، حتى أعادت مع صديقاتها روح الجيل الأول المحبة، كانت فى شخصيتها سعة البحر حينما تقف عليه؛ حيث كانت تسع الجميع بروح العفو والرحمة.
كانت تقول عن لحظات الصفاء النادرة هناك لحظات فى حياتك تشعرك أنك أمسكت معنى الحياة ولامست جوهرها وغالبا ما تأتى بغير موعد ولا إعداد وتأتيك من حيث لا تحتسب.
لقد قرر زوجها د/كمال حبيب بصراحة «لقد هذبت فىَّ كثيرا مما كانت تموج به نفسى من الغضب والاندفاع والتسرع حتى استوت على سوقها».
أنهت لحظات حياتها بشهادة تستحقها لتكون من أهل«المبطون شهيد» رحمها الله رحمة واسعة، وخالص العزاء لأسرتها الصغيرة والكبيرة.