الحكى دقة قديمة - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 9:10 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحكى دقة قديمة

نشر فى : الأربعاء 13 سبتمبر 2017 - 9:10 م | آخر تحديث : الأربعاء 13 سبتمبر 2017 - 9:10 م
من منا لم يستغرب يوما بعض العبارات التى يستخدمها أقارب وأصدقاء يعيشون منذ فترة خارج البلاد؟ من منا لم يضحك فى سره على عبارات تقولها العمة التى هاجرت إلى أمريكا بعد زواجها ولم تعد، أو الخال الذى يعيش فى ألمانيا منذ درس فيها الطب؟ هى عبارات ربما لم نعد نسمعها فى حياتنا اليومية، ربما حتى هى عبارات باتت تذكرنا ببعض الشخصيات الكوميدية القديمة التى ظهرت فى أفلام ومسلسلات منذ سنوات بعيدة. هى مقولات أصبحت أصلا كريكاتورية، يرميها شخص وسط الحديث فيرد عليه آخر «ييييييى صار لى زمان ما سمعت هادا التعبير» فلا يفهم صاحب المداخلة إذ بالنسبة له هذه هى لغته كما تعلمها.
***
نعم كما تعلمها، منذ سنوات مضت، فى مدرسة ربما لم تعد موجودة، فى بيت على الأغلب تم هدمه لتظهر مكانه عمارة سكنية فيها الكثير من الشقق الصغيرة. هى لغته كما تعلمها قبل أن يغادر البلاد ويستقر فى مكان بعيد شعر فيه يومها وما بعده أنه سفير للغته ولبلده. هى عبارات استخدمتها العمة كما كانت تسمعها من والدتها وعماتها والجارات، عبارات تنثرها فى حديث فتزركش كلماتها الجمل، قد تكون أمثالا قديمة تعلقها على حديثها كزينة ملونة تتدلى مضيئة من السقف. قد تكون عبارات تستقبل بها الزوار فتعيدهم إلى بيوت تتوسطها نافورة وعلى طرف فسحتها شجرة نارنج، أو قد تكون مصطلحات سقطت تماما من الحديث المحكى لكنها، وبظهورها غير المتوقع، أضفت على الجو أنوارا صغيرة، كتلك التى تزين بها العمة شجرة عيد الميلاد فى البلد البارد الذى تعيش فيه.
***
أفكر فى عبارات كـ«سبع صنايع والبخت ضايع»، أو أن يدخل أحدنا كلمة «دادا» حين يتوجه بالحديث إلى شخص، فيقول مثلا «دادا ما تقول هيك»، أو أن يصف أحدهم بأنه «طلطميس»، وهى كلمة لم يعد أحد يتداولها تقريبا وتعنى أنه غبى لا يفهم شيئا. أفكر فى ذلك كله وأنا أعترض على بعض الكلمات التى صار يستخدمها الشباب. أعترض، وبذلك أقر بأننى ربما صرت أقرب للعمة أو القريبة التى لطالما أضحكتنا، أو للعم الذى كنا نصف لهجته بأنها «عتيقة». ماذا أفعل؟ هل أدخل بعض المصطلحات الجديدة على كلامى، فأندمج مع جيل أولادى بدل أن ينظروا إلى كما كنت أنظر إلى جيل والدتى وصديقاتها؟ هل دخلت إلى عالم الخالات والعمات والأقارب الأكبر سنا والأقل حداثة، فصار أطفالى وأصدقاؤهم يضحكون سرا على مصطلحاتى؟ 
***
عظيم، ها أنذا إذا أنظر بتسامح أكبر إلى جارة كانت تعيش فوق بيت جدتى، أى فى العمارة نفسها على الطابق الأعلى. كنت أراها دوما تشبه ممثلات عصرها لكن بشكل فيه بعض الكوميديا. كان صوتها رفيعا، وكنت أسمعها حين تتشاجر مع صديقاتها أو مع أحد إخوتها، فتنجرف فى تيار من الكلمات التى كان معظمها يصلنى، فأتخيل ممثلة صففت شعرها فى تسريحة مرتفعة فوق رأسها، تصرخ فى سماعة هاتف أرضى من البلاستيك الأبيض معلق فى الحائط، وتتحرك معه فى الحجرة بفضل سلك طويل.
***
ها أنذا اليوم أنزعج من كلمات يقول الشباب من حولى إنها أصبحت متداولة، أحاول أن أتجاهلها وأن أثنى أطفالى عن استخدامها. أطفالى ما زالوا فى عمر يتقبلون فيه ملاحظاتى دون تشكيك من النوع الذى يظهره المراهقون. 
ها أنذا إذا مرة أخرى فى ذلك الموقع الغريب بين جيلين، هى مساحة تلتقى عندها دائرتان من الطباشير رسمهما أحدهم على الأرض. أنا أقف فى المساحة بين جيل مضى وأخذت منه الكثير، حتى ولو كنت قد سخرت من بعضه فى صغرى، وجيل أصغر منى يرفض، كما رفضت أنا من قبله، أن يكرر ما يراه قديما، من أوقات مضت، غير مناسب للعصر، «دقة قديمة».
***
لماذا تصر الحياة على أن تذكرنى يوميا بأنها تمضى فتضع حول عينى تجعيدة جديدة؟ لماذا تمسكنى من كتفى لتقول لى «أنت الآن فى عمر تلك الجارة، فما رأيك فى من ينظر إليك على أنك مسلسل تلفزيونى قديم؟». أنظر إلى ابنتى، أصغر أطفالى، ويعتصر قلبى لأنها الأخيرة، وكأن الحمل والاعتناء بالرضيع يوقفان عجلة الزمن. أنظر إلى الصغيرة وأتمنى أن تبقى كما هى، وفى ذلك شىء أنانى، فأنا أريد أن أبقى أيضا فى هذه المرحلة العمرية، وألا تصفر أوراقى قبل أن تتساقط. هل أنجب أطفالا آخرين علنى أبقى معلقة فى مرحلة العطاء؟ هل أتقبل أن الحياة تشبه نواعير حماه، تلك الآلات الدائرية الخشبية الكبيرة التى لا تتوقف عن الدوران، تمضى بعضا من وقتها فى الماء لتحمل منه ما استطاعت وترفعه لتصبه فى قناة عالية فتجرى المياه لتسقى البساتين؟ مع كل دورة للناعورة أكبر أنا سنة، مع كل دورة أقترب من الجارة التى أصبحت اليوم عجوزا تحكى عن شبابها وعن تصفيفة شعرها، وعن الهاتف الأبيض الذى لم يعد أصلا موجودا فى البيوت.
***
أم أقول لنفسى أن نواعير حماه المصنوعة من خشب الجوز والسنديان، وعلى الرغم من قدمها، إلا أنها تكمل حياتها تماما كما تكمل مياه النهر تدفقها، فتزدهر من حولها البساتين أحيانا، وتنهدم البيوت أحيانا أخرى، وهى تواصل حركتها الرتيبة، دون أن يسألها أحد «خالة أديش عمرك؟ وليش اسمك ناعورة؟ شو هالاسم القديم.»
تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات