على شاطئ المتوسط ترتاح تونس، يحفر البحر على جسدها تضاريس أراها من الطائرة، تداعب الشمس وجهها فتخفيه فى حارات ضيقة أسمع على أرصفتها وقع أقدامى، أنظر حولى أينما تحركت، فى محاولة دائمة فى كل زيارة لمدن لا أسكنها أن أجد بعضا من نفسى على الحيطان وبعضا من أحبائى فى الوجوه.
الإيقاع بطىء وهواء البحر يتسلل بين المبانى البيضاء فيختلط برائحة زهر البرتقال، أينما أمشى ألتقط تفاصيل من دمشق. ثمة إجحاف فى بحثى المستمر عن الشام، إجحاف بحق المدن التى أزورها فهى لم تدع يوما أنها دمشق، وإجحاف فى حق دمشق فهى لم تطلب أن تتبعثر معالمها على المدن الأخرى.
***
أشعر أن السورى لم يفرغ بعد حقيبة السفر، أو ربما لم أفرغ أنا حقيبتى رغم سنوات طويلة من التنقل، فأنا أحمل حياتى فى حقيبة من مكان إلى مكان منذ قرابة العشرين سنة، عند كل استراحة أنثر ماء الزهر حولى وأبحث فى الشوارع عم قد يذكرنى بمدينتى، الخزف الملون؟ الخشب المحفور؟ كوب الشاى الشفاف ورائحة التبغ؟ مجموعة سيدات جميلات الوجه يضحكن ويتباحثن فى موضوع؟ ألتقط بعضا من كلماتهن أم تراها كلمات والدتى وصديقاتها فى يوم ربيعى هو الآخر فى زمن بعيد ومكان أبعد؟
***
«يا تونس الخضراء كيف خلاصنا» قال نزار قبانى فى قصيدة اعترف بها بتعبه من هويته العربية، هنا من على ضفة المتوسط يبدو المدى بلا نهاية، والأفق ما زال مفتوحا فأنسى للحظات انسداده فى بلاد أخرى هى بلادى، تقول صديقة تعيش هنا أن زيارة تونس مهمة لإبقاء شمعة الأمل مشتعلة، يشتكى الأصدقاء هنا من الاقتصاد والغلاء والتقدم البطىء، وأغار فى سرى من شكواهم، يتحدثون عن تدهور معالم البلد وازدحام الشوارع فأتمنى لو أبادلهم همهم بهمى ولو لأيام فأرى من زاويتهم أسباب تذمرهم.
***
«أنا متعب ودفاترى تعبت معى» ولا شك أن القارئ تعب أيضا، أحاول بصدق أن أنتزع نفسى من مخالب اليأس، أنظر فى وجوه أطفالى فأستعيد بعضا من السعادة، لكن فى داخلى هوة لا قاع لها، أخجل من ذكرها إذ فقد الكثيرون ما هو أهم من شوقى إلى بيت أو حنينى إلى حارة قديمة.
***
هى فعلا هوية ثقيلة تلك التى تكبلنى بحبها، أنا يا صديقتى متعب بسوريتى، أعرف أن هذه جملة أساها من نفس قصيدة نزار اشتكى فيها من وجعه العربى حين قال «أنا يا صديقة متعب بعروبتى». أمشى فى تونس وأحاول أن أضع يدى على توصيف. ثمة شىء فى هواء المدينة يدعو إلى السكينة، هو ليس الإيقاع فحسب، ولا هو حضور اللون الأزرق بكثرة من حولى، فى البحر والسماء والشبابيك والأبواب.
***
فى اللغة الإنجليزية ثمة تعبير يستخدم حين ينبهر أحدهم بشىء فيحتاج لحظات لاستيعاب ما يرى، التعبير هو «جردنى من السلاح» بمعنى أن ما أراه قد انتزع منى سلاحى، أو أزاح عنى رغبتى فى قتله من شدة جماله، تونس امتصت كثيرا من توترى، طبطب بحرها على قدمى ومسحت شمسها على شعرى، لعبت حاراتها مع ذاكرتى لعبة الاستغماية برفق، فحركت فى قلبى روائح من حارات دمشق دون أن تدفعنى إلى البكاء.
«هل فى العيون التونسية شاطئ... ترتاح فوق رماله الأعصاب؟»
***
عشت فى بيروت عدة سنوات وقفت خلالها كثيرا أمام المدى المفتوح، البحر المتوسط ذاته فلم يأخذ أى بحر قط فى قلبى مكان المتوسط، أغار ممن يجاورون البحر فى سكنهم على فكرة، أنا الدمشقية التى تربت على أن تقدس نهر بردى الذى جف أصلا منذ سنين، أم تراه انفتاح فى النفوس لا يمكن أن يطاله من لم يعش قرب بحر؟ يقال أن أهل الساحل، أى ساحل، هم أكثر انفتاحا على الحياة وتقبلا لها ببساطة ودون تعقيد، قد لا ينطبق الوصف على بيروت التى ذبحها أهلها على مدى سنوات، أو على طرابلس وبنغازى وغيرها من المدن الليبية التى ما زالت تحاول نفض الموت من على رءوسها، فى وصف أهل مدن الساحل قطعا بعض المبالغة والتعميم، لكن فى قدرة الزرقة على تهدئة العواصف لا مبالغة ولا تعميم.
***
فى تونس أعود طفلة تهدهدها أمها وقت المغرب فأتوقف عن الصراخ، يرجع بى الزمن فتتضح عينا أمى الرماديتين وتبرقان وسط وجهها الأملس. تختفى تجاعيدها وأستكين أنا فى حضنها، أسمع شكوى الأصدقاء من صعوبات يومية لكنى أشيح بأذنى عنهم إذ اخترت ألا أدعهم يعكرون سكونا بدأ يتسلل إلى عاصفتى فهدأها، دعونى أصدق أن ثمة مدينة فى منطقتى المنكوبة ما زالت قادرة على التغير والانتقال دون أن تكسر سكانها، دعونى أعتبر تونس طفلة المنطقة المعجزة فسوف أتغاضى عن بعض التفاصيل بهدف الحفاظ على الحلم.
***
تونس انتزعت منى السلاح فتعلمت بسرعة أن أتعامل دون ذخيرة، استعدت بعضا من نفسى كنت أحبها ولم أرها منذ سنوات، سكينة لم تعد تشبهنى فردود فعلى هنا تشبه عبارات الحب أكثر منها عبارات الحرب التى كثيرا ما أجد نفسى ألجأ إليها فى حياتى اليومية، إذ كما قال نزار، «من أين يأتى الشعر؟ حين نهارنا قمع، وحين مساؤنا إرهاب».