لم يعد خافيا على أحد أن الفتوى الإسلامية فى العالم المعاصر تمر بأزمات كثيرة تجعل الإسلام يبدو غريبا فعلا عن التطورات الحديثة، أزمة تجعل الإسلام يبدو لغير المسلمين وكأنه دين أنانى، عنيف، يرفض وجود الآخر، ويرفض التعايش ويتنكر لقيم المحبة والسلام والعدل، وهو ما يعرف كثير من المسلمين أنه أمر غير صحيح، فالإسلام فى رسالته الأولى واضح فى دعوته للتعايش والسلام والمحبة، وحتى التراث الإسلامى على كل الانتقادات التى توجه له فمازال فيه الكثير من القصص والسرديات التى تؤيد قيم العدل والرحمة والتعايش، فأين تكمن المشكلة؟
بعد وفاة الشهيدة شيرين أبو عاقلة فى جنين برصاص الجيش الإسرائيلى فى عملية قتل متعمدة ومقصودة لشيرين وزملائها ورغم روعة صورة التفاف كل الفصائل الفلسطينية حول جثمان شيرين، ورغم كل ما تعرض له النعش من هجوم إسرائيلى همجى بينما كان فى طريقه إلى مثواه الأخير بلا أى مبرر سوى الرعب من تحول جنازة شيرين إلى شرارة تقود انتفاضة ثالثة فى الأراضى الفلسطينية، ورغم الإجماع العالمى لكل من فى قلبه ذرة إنسانية على بشاعة جريمة القتل المتعمدة وعلى نقاء سيرة شيرين العطرة، فإن نفرا ممن ابتلاهم الله بتحجر المشاعر وموات القلب وشلل العقل أخذوا يؤكدون ما يسمونه زورا «ثوابت العقيدة» بأن شيرين كافرة لا تستحق الدعاء بالرحمة لأنها ماتت كافرة! هذا قيل بمنتهى البرود والتكبر والتجبر والشعور بالاستحقاق واليقين ممن يدعون التخصص فى الفتوى الإسلامية، ومما يدعون أنهم ومؤسساتهم فقط المخولون بالفتوى لجمهور المسلمين!
• • •
هذا مجرد مثل واحد لحقيقة أن الفتوى فى الإسلام المعاصر تبدو مرتبكة بشدة ولهذا الارتباك أسباب عديدة أهمها ما يلى:
احتكار الفتوى: فالكثير من المؤسسات الإسلامية تتصارع على احتكار الفتوى وتعتبر نفسها أنها المخولة بإصدار الفتاوى بشكل حصرى وما عداها من مؤسسات وأفراد لا يحق لهم الأمر نفسه! ترى العديد من المؤسسات الإسلامية وكثير من علماء الدين بأنهم فقط الأجدر لإصدار الفتاوى، متناسين أن تاريخ الإسلام فى سنواته الأولى لم يعرف أصلا احتكارا للفتوى، وأن محاولة احتكار الفتوى هى عملية خضعت للظروف والتطورات السياسية والصراع على السلطة السياسية بين الخلافات الملكية المتوارثة والمتصارعة والتى لم تستح أبدا فى تطويع الفتوى لخدمة أغراضها السياسية بما فى ذلك فتاوى بررت سفك الدماء وقتل المسلمين وغير المسلمين على السواء!
مأسسة الفتوى: يقولون لك دائما إنه «لا كهنوت فى الإسلام» والحقيقة أن هذا صحيح تماما إذا ما كنا نتحدث عن أيام الإسلام الأولى، ولكن وبكل تأكيد فهذا غير صحيح عبر التاريخ الإسلامى الذى كان الأصل فيه هو الممارسات الكهنوتية شديدة التسلط، وقبل أن تنتفض عروقك عزيزى القارئ المتأثر بأسطورة غياب الكهنوت فى الإسلام، أدعوك لقراءة تاريخ الإسلام منذ العصر الأموى وحتى اللحظة!
الحقيقة أن محاولة مأسسة الفتوى ــ أى تحويلها من فتاوى تصدر عن أفراد علماء الدين إلى فتاوى تصدر عن مؤسسات هيراركية لها لوائح وقوانين وثقافة وتخضع لعلاقات القوة داخل المؤسسة الواحدة، أو بين المؤسسة الدينية وغيرها من المؤسسات الدينية الأخرى، أو بين المؤسسة الدينية وغيرها من المؤسسات السياسية فى المجتمع ــ تقود آليا إلى الممارسات الكهنوتية! فالعلاقة بين مأسسة الفتوى وبين تحويل المعرفة الدينية إلى معرفة كهنوتية هى علاقة وجود أو عدم، إن وجدت المؤسسات تحول الدين إلى كهنوت وإن غابت المؤسسات، غاب الكهنوت هكذا ببساطة! الفتوى فى الإسلام المعاصر هى ممارسة كهنوتية يتم التعامل معها باعتبارها سرا من الأسرار المقدسة ومن يحاول أن يجادل فى ذلك أو حتى مجرد طرح تساؤلات بخصوصه يتم اعتباره غير مستحق للرحمة المنزلة والمغفرة المملوكة حصريا لهذه المؤسسات أو بمعنى أدق للقائمين عليها!
علمية الفتوى: فالفتوى الإسلامية فى عالمنا المعاصر يتم التعامل معها باعتبارها معرفة علمية لا يحق لغير العلماء الاقتراب منها أو مناقشتها من غير العلماء! وهذا الافتراض الذى تحول إلى سياسة ثابتة بواسطة الكثير من المؤسسات الإسلامية المعاصرة، يصر على تمييع الخط الفاصل بين الفتوى المتعلقة بالطقوس الدينية البحتة (كالصلاة أو الصوم أو الحج) وبين أمور الحياة العامة!
ولتقريب الفكرة، كمسلم أتفهم أن أطلب الفتوى من متخصص فيما يتعلق بمناسك الحج، أو العمرة، أو بمبطلات الصلاة، أو بعدد ركعاتها، أو بطرق قصرها أو جمعها فى ظروف معينة كالسفر أو المرض.. إلخ. لكن لماذا يفترض على كمسلم عاقل راشد متعلم قد تكون حصيلة معرفتى المتواضعة فى الحياة والثقافة والفن والعلوم الاجتماعية أو التطبيقية أو فى الجغرافيا والتاريخ والحضارة أكبر بكثير من حصيلة المعرفة الخاصة بعشرات المفتين وكبار شيوخ المؤسسات الإسلامية بخصوص المجالات السابقة، أقول لماذا أفترض أن أطلب منهم الفتوى بخصوص شكل النظام السياسى الذى أفضله أو الحكم على الديموقراطية أو الرأسمالية أو الشيوعية؟ لماذا يفترض بى أن أسأل هؤلاء إن كان من حقى أن أصافح غير المسلم أم لا، أصادقه أم لا، أزور كنيسته أو معبده أم لا، أهنئه بعيده أم لا، أترحم عليه أم لا، أتعامل مع البنوك أم لا، أستمع إلى الموسيقى أم لا، أشاهد الأفلام والمسرحيات أم لا، أنظر فى المرآة أم لا... إلخ؟
ما علاقة الفتوى بهذه الأمور الحياتية البحتة التى تخضع لقوانين التطور المعرفى القائم على تراكم المعارف البشرية العلمانية التى ساهمت فيها حضارات وديانات وعقائد مختلفة؟
أسطورة إجماع العلماء: دعونا نفترض أننا قبلنا أن تتدخل الفتوى فى كل مناحى حياتنا، ودعونا نقبل أننا على اختلاف معارفنا الحياتية والعلمية والثقافية سنصطف كالتلاميذ أمام دكاكين الفتوى فى انتظار فتوى فى كل كبيرة وصغيرة فى حياتنا، ماذا لو وجدنا أن عالما للدين قرر أن يخرج عن فتاوى الأغلبية العددية بخصوص قضية معينة وأصدر فتوى مختلفة عن السائد؟ هل يمكن أن نتبعه أو نتبعها؟ وفقا لمؤسسات الفتوى لا يمكننا فعل ذلك، لماذا؟ لأن هناك أسطورة اخترعها هؤلاء وأسموها بـ«إجماع العلماء» واستخدموها كسلاح وأد لأى اجتهاد مختلف عن السائد، لا أتحدث هنا عن اجتهادات البشر العاديين لا سمح الله، ولكنى أتحدث عن اجتهاد فردى من بعض «علماء الدين» ممن ينتمون لنفس هذه المؤسسات، ولكن لأنهم قد يأتون إلى نتيجة مختلفة عن فتاوى الأغلبية، فإنه يتم استخدام سلاح شديد الفتك والبطش اسمه «إجماع العلماء» لإخراس الخارجين عن هذا الإجماع! إجماع العلماء يفترض أن هناك مجمعا لجميع علماء المسلمين عبر التاريخ والجغرافيا يجتمع فيه العلماء الأحياء منهم والأموات يناقشون فيه بشكل مستقل الفتاوى ثم يصوتون عليها بشكل ديموقراطى، وتكون نتيجة التصويت هى الإجماع على غرار نتائج الانتخابات فى الدول السلطوية والتى تأتى كما نعرف عادة بنسبة ٩٩.٩٩٪!
لا يوجد شىء اسمه إجماع العلماء لا حاليا ولا ماضيا، ولن يكون هناك مستقبلا لهذا الإجماع المزعوم! هناك علاقات قوة تحددها العديد من الظروف السياسية والتاريخية والاقتصادية والثقافية وأحيانا الإثنية هى التى تنتج ما يمكن أن نطلق عليه الفتوى السائدة أو الفتوى المهيمنة التى يتم توارثها عبر الأجيال إلى أن تتغير علاقات القوة هذه! الحقيقة أن إجماع العلماء ما هو إلا الوجه الآخر لـ«هذا ما وجدنا عليه آباءنا»!
ذكورية الفتوى: وهنا لا يفطن الكثير من الناس أن المعرفة البشرية والدينية على السواء حتى وقت قريب وفى كل الأديان والحضارات كانت بالأساس معارف ذكورية، أى أنها معارف تم تشكيلها بواسطة رؤية ذكورية تاريخية للحياة بكل مكوناتها، وأن ما تنتفض عروقك من أجل ما تعتقد أنه رأى الله، قد لا يكون سوى رأى معبر عن هيمنة الذكور فى المجتمعات البشرية عبر التاريخ عن إصدار هذه المعارف المقدسة!
سلطوية الفتوى: وأخيرا، دعنا ننسى كل الجدالات السابقة، لنفترض الآن أننا أمام فتاوى مقدسة لا تقبل الجدل ولا الاختلاف، فهل يمكن لنا كبشر أن نقر بصحة الفتوى من الناحية الدينية، ولكن لنبقى لأنفسنا كمواطنين عقلاء راشدين حق تنفيذها أو عدم تنفيذها فى الحياة؟ يا للأسف حتى هذا فى الإسلام المعاصر غير جائز، لأن من يصدرون الفتوى لا يسعون فقط للهيمنة على معارفنا الدينية ولا بإرهابنا بالعقاب فى الآخرة، ولكنهم يسعون أيضا إلى تطبيق عقوبات دنيوية علينا إن لم نخضع لهذه الهيمنة المطلقة!
• • •
ستظل الفتوى الإسلامية المعاصرة مرتبكة وستظل مساهمة فى اغتراب الملايين من المسلمين عن حياتهم المعاصرة وسنظل نقدم صورة شديدة السوء عن الإسلام لطالما أنها ظلت حبيسة للمعضلات سالفة الذكر، فالموضوع ليس مجرد ترحم على ميت من عدمه، ولكنه صراع بين استقلال العقل البشرى والإرادة الإنسانية للمسلمين وبين محاولة تحويلهم إلى آلات صماء منزوعة الإنسانية والمشاعر والمعارف لا تتحرك إلا بالريموت كنترول!