"نبشر قشر النارنج قليلا حتى نزيل طبقة الجلد الخارجية الرقيقة، ثم نقطع القشرة بسكين حادة إلى ثمانية أجزاء متساوية، وننزعها من الثمرة برفق حتى تبقى الثمانيات سليمة دون أن تتمزق، فسوف نحتاجها كما هي دون أن تتفتت. نعيد الكرّة مع كل حبات النارنج التي نريد أن نصنع منها مربى. ننقع القشور في ماء عذبة، ونغير الماء مرات عدة لمدة يوم كامل على الأقل حتى تتخلص القشور تماما من المرارة، فالنارنج هو برتقال مُر لا يمكن أكله لذا نصنع منه مربى. حين تصبح القشور جاهزة نبدأ عملية عقدها بالسكر والماء." أذاكر التعليمات جيدا وهي تصلني على الهاتف عبر القارات.
في الطبق الفضي، رصت جدتي قشور النارنج بعد أن عقدتها في السكر على النار، ثم صفتها منه ودعكتها بالسكر الخشن، فصارت تلمع في ضوء الشمس الذي يغرق مطبخها القديم بنور دافىء. الفصل هو فصل الشتاء في دمشق، وفي مطبخها تختلط رائحة البرتقال برائحة السكر على خلفية رائحة المازوت الذي يستخدمه السوريون عموما في بيوتهم للتدفئة، ونستنشق بقاياه في الشارع أيام البرد، فمن النادر أن يكون في البيت السوري مصدر كهربائي للتدفئة.
***
أدوس أزرار الزمن في مخيلتي فأجد نفسي في بيتنا في دمشق وقد توفيت جدتي منذ عدة سنوات، لكنني أجلس إلى طاولة المطبخ أراقب والدتي وهي تعيد نفس حركة جدتي، فتلف قشور النارنج في السكر الخشن، وتتلألأ القشور في شمس الشتاء بعد أن رصتها والدتي على صينية كي تقدمها لصديقاتها حين يزرنها. من حيث أجلس على كرسي المطبخ، أرى شجرة النارنج في الحديقة تحمل ثمارها كامرأة اكتمل حبلها فزادها جمالا، تتمايل أغصانها حين ينفخ فيها هواء الشتاء فتبدو وكأنها تهز أذنيها المزينتين بأقراط ماسية تفخر بهما.
في سوريا صنع المربى فن عريق قائم بذاته، تدخل فيه أنواع من الثمار لا تستعمل في بلدان أخرى للمربى. في حلب تحديدا مدرسة خاصة لعقد ما قد يبدو غريبا، فمن يذكر طعم الباذنجان الصغير بعد أن يتم تجويفه ثم عقده مع السكر وحبات القرنفل ومن ثم يصفى ويحشى بالجوز المطعم بالبهارات خليط قد لا يخطر على بال أحد لكن حين تذوب لقمة منه في الفم يتساءل من يأكله للمرة الأولى "كيف عشت حياة كاملة من دون مربى الباذنجان؟".
أما ثمرة الكباد، وهي تبدو في شكلها وكأنها الشقيقة الأكبر سنا والأكثر تغضنا للبرتقال، بسبب حجمها الكبير وتضاريس ملمسها التي تبدو وكأنها تجاعيد عميقة على بشرتها، فالمربى المستخرج منها يعده الكثيرون ملك المربى، لما في صنعه من حرفة وفي طعمه من أناقة. هذه المربيات لا تؤكل مع الخبز أو مع الزبدة، هي قطع فنية، تستوجب علينا أولا أن ننبهر بشكلها وبملمسها، ثم أن نستمتع باستنشاق عطرها الليموني، وبعد ذلك نأتي إلى فرك سطحها ولعق السكر الذي يلتصق بإصابعنا منها قبل أن ندعها تذوب في فمنا، فيتوقف بنا الزمن لحظات كفيلة بأن تنقلنا إلى السوق القديم بعبقه المتمازج مع ضوضائه. هناك، تفاصل سيدة البائع في سعر الجوز، فتعده بأنه لو خفض لها السعر فستعطيه مرطبانا صغيرا من مربى الباذنجان المحشو به. هناك، تطغى رائحة القرفة على المكان فهي من أقوى روائح البهارات، وأنا أشمها من حيث أجلس على بعد آلاف الكيلومترات وآلاف الأزمنة أتابع أخبار الموت.
***
في مطبخي القاهري، أبشر قشر البرتقال لأعطر به كعكة أريد خبزها. أفرك القشر بين يدي فيخرج منها مطبخ والدتي ومن قبله مطبخ جدتي. على أصابعي زيت البرتقال، أحاول أن أجعل رائحته تخمد ذلك الصوت في رأسي، صوت طفلة في حلب تستغيث تحت الركام. أتابع بشر البرتقالة فأرى حديقة منزلي في دمشق وقد حملت أشجار النارنج والكباد في غيابنا. أخلط قشر البرتقال مع السكر والقرفة فتظهر عينا جدتي الزرقاوتان وهي تحاول إقناعي أن أتناول قشرة نارنج معقودة بالسكر بدلا عن حبة حلوى.
أنا لم أتقن فن صنع المربى في الماضي ولم أكن أهتم به من قبل، فقد كنت دوما محاطة بمصادر للمرطبانات الزجاجية القصيرة الشفافة المليئة التي تغطي وجوهها قطع من قماش التول الأبيض المثبتة على الإناء بخيط مطاطي، كانت ترسلها لي والدتي أو جدتي من دمشق أو قريبتي في حلب على مدار السنة حيثما كنت أعيش، فترى مربى النارنج في بيتي في نيپال أو مربى الباذنجان في منزلي في السودان، أو قطع الكباد في شقتي في نيويورك. كانت تلك المرطبانات تشبه العروس في نظري، بسبب قطعة التول الأبيض الذي يغطي وجهها كالطرحة ليلة عرسها. اليوم، في مطبخي القاهري، أتساءل إن كنت سأبدأ بتعلم الصنعة وفاء لمدينة والدي التي تختفي تحت رمال الحرب المتحركة. أم أننا يجب أن نعلن الحداد، فنتوقف عن عقد السكر بالماء، وعن تحويل ثمرة النارنج المرة إلى قطعة حلوى شفافة كالكريستال؟ اليوم، في مطبخي القاهري، يبدو لي مرطبان المربى كجثة طفلة لفها أهلها بكفن أبيض، تخرج منه رائحة ماء زهر البرتقال التي رشوها عليه وهم يودعونها، مازال جلدها دافئا ووجهها مرتاحا في موتها. اليوم، لا سكر معقود في حلب، فقد رش الموت على أهلها فلفلا أسود خنقهم. لكن صوت جدتي التي رحلت منذ سنوات يدخل على عتمتي اليوم، وأسمعها تقول "اتذكري أنه شجرة النارنج معمرة ودايما خضرا ما بتموت."