من أكثر من تحدوا امكانياتى أثناء فترة عملى معهم عضوا منتدبا لشركة ادارة صناديق هولندى. هو اليوم من أقرب أصدقائى. أتذكر أنه كان يأتى آخر العام ويطلب منى أن أنظر لوضع الصندوق الفلانى أو المكتب العلانى فى منطقة الشرق الأوسط والتى كانت تحت ادارتى فى هذا الوقت. أقول له إن وضعه جيد ولا يحتاج تعديلات، فيسألنى هل أنت متأكد من ذلك، وأقضى أياما وأسابيع أضرب أخماسا فى أسداس عما يريد هذا الرجل. وفى لحظة صفا، شرح لى أن نظامهم التعليمى يشجعهم على التساؤل دائما «هل هذا النظام يعمل جيدا؟»، «هل هو فى أحسن صوره؟»، «حتى اذا كان يعمل، هل يمكن تحسينه؟».. كان ذلك من أهم الدروس التى تعلمتها منه. الشعب الهولندى لمن لا يعلم هم ملوك التخطيط فى العالم، من لا يصدق فلينظر إلى أمستردام التى بنيت فوق قنوات مياه وتعمل بدون مشاكل تذكر. أمستردام فقط تستقبل حوالى 19 مليون سائح سنويا.. بينما تستقبل مصر بكل ربوعها 10ــ11 مليون سائح فى المتوسط.
تذكرت هذه الأسئلة فى أثناء آخر تعاملاتى مع النظام المصرفى المصرى. بالتأكيد هو نظام نجح إلى حد بعيد فى إدارة المخاطر المصرفية المعتادة، وبذلك حقق نجاحا يحسد عليه محليا وحتى فى المنطقة ولكن «هل يمكن تحسينه؟»، الإجابة فى رأيى هى بالتأكيد نعم. عندما ننظر إلى البنوك العالمية اليوم نجدها نجحت فى تطوير التجربة المصرفية لتتمحور حول العميل وليس حول الروتين. فإذا كان الروتين جيدا لأنه يساعد فى ادارة المخاطر ولكن الكثير منه يضيع الوقت والمال والجهد. فى أمريكا اليوم تستطيع ايداع شيك للتحصيل عبر أخذ صورة وتحميلها على تطبيق على الهاتف المحمول. التحويل المصرفى فى نفس البلد بالتأكيد يصل فى الحساب فى نفس اليوم وفى التحويلات الدولية يأخذ على الأكثر يوم عمل. اذا قمت بزيارة أى فرع لبنك فى مصر ستجد مناديب الشركات تقف منتظرة الدور على الشباك لتصرف شيكا ثم تأخذ الأموال وتخاطر بنقل المبلغ المالى الذى قد يصل لملايين فى أحيان كثيرة وتنقله لفروع بنوك أخرى؛ حيث تأخذ دورا على الشباك وتنتظر لعد المبلغ وإنهاء الايداع. يا إلهى!! كما كانت تقول مدام نيتسا معلمة الحساب فى مدرستى الابتدائية فى قلب القاهرة النابض بالفجالة. هذه الاجراءات انتهت من العالم كله. الشركات معذورة، تبحث عن السرعة ولديها احتياجات والتزامات. هل اذا سهلنا اجراء إيداع الشيك وتحصيله فى مقصة الكترونية مثلا،هل نرى هذه «اللفة» تستمر بنفس الوطيئة؟ زحمة بالشوارع، مخاطر على الأرواح والممتلكات، زحمة لعملاء البنك الآخرين الذين يحتاجون خدمات أخرى، طاقات مهدرة فى البنوك ومشاكل أخرى لا حصر لها. هى مشكلة تم حلها فى العالم المتحضر كله فلماذا لا نحلها عندنا؟
أرى مؤتمرات وملايين تصرف من القطاع المصرفى ومن الدولة على الاحتواء المالى. عدد حسابات البنوك بالنسبة لعدد السكان ضئيل. ولكن هل المشكلة فقط فى عدم وعى المواطنين بالفرص التى تنتظرهم اذا كان لهم حساب بنكى أم أن جزءا من المشكلة يكمن فى طريقة ادارة وتدوير الخدمات المصرفية خاصة فى الفروع؟ من منا لم يذهب للبنك وصدم بكلمة «السيستم واقع» وتمنى لو كانت نقوده فى حشو المرتبة أو تحت البلاطة بدلا من عذاب الانتظار. التعامل الورقى بالامضاءات والأختام ما زال هو سيد الموقف. صديق لى قام برفع الحد الائتمانى لكارت الائتمان الخاص به فى أحد بنوك أمريكا من خمسة آلاف دولار إلى عشرة آلاف دولار فى ثلاث دقائق وهو على التليفون من مصر. البنك لديه كل البيانات وكلها مربوطة ومميكنة ولديه تاريخ الحساب. الموضوع لا يحتاج سوى برنامج ذكاء اصطناعى بسيط جدا ليعطى الرد بالموافقة، واذا البرنامج قال لا، يتم رفع الموضوع لقسم الائتمان الذى يرد فى خلال يومين عمل ويتم تنفيذ الحد الجديد فورا. فى خلال ثلاث دقائق من بدء المكالمة، كان كارته يعمل بالحد الجديد. هم ليسوا أذكى منا ولكنهم أفضل تنظيما ولا يضعون عراقيل لا لزوم لها. فى أمريكا التصنيف الائتمانى الخاص بك ليس سرا حربيا ومن حقك الاطّلاع عليه بسهولة ويسر. تستطيع عمل اشتراك مجانى فى حساب بنكك يطلعك على تصنيفك لحظيا. أمريكا ليست الوحيدة. صديق آخر كان يعمل فى بلجيكا يحكى لى أنه بعد عشر سنوات من الحياة هناك أراد أن يقوم بإيداع نقدى فكان يجب عليه أن يسأل كيف يفعله هناك. فى خلال عشر سنوات لم يحتاج استعمال خاصية الايداع النقدى وكان شيئا غريبا عليه. هو مصرى واستطاع أن يعيش عشر سنوات بدون الوقوف على شباك لايداع نقدية.
نقطة أخرى هامة، فى مقال سابق كنت قد تحدثت عن أهمية وجود آلية واضحة وسهلة للخروج من السوق. نفس الشىء مهم فى الحسابات البنكية. يجب أن تستطيع اغلاقها فى سهولة ويسر وأيضا «بدون ديول». أكاد أكرر كلمة بدون ديول فى كل مقالة أكتبها فنحن مازلنا نعشق الديول والورق وذهاب الشخص بذاته لقضاء حاجته. الروتين المعقد يجعل اغلاق الملفات بطريقة نظيفة وقاطعة صعب. مشكلة!
جزء من هذه المشكلة بالطبع هو ضعف المنافسة. طبقا لإحصائيات عام 2018: هناك حوالى 40 بنكا عاملا فى مصر يخدمون حوالى 100 مليون نسمة. أى بنك واحد لكل 2،5 مليون نسمة. بعدد فروع يقدر بحوالى 4500 فرع؛ أى أن كل فرع يخدم حوالى 22 ألف نسمة. أما إذا قارنا بالولايات المتحدة ففيها حوالى 6800 بنك تخدم حوالى 330 مليون نسمة. أى بنك واحد لكل 49000 نسمة، بإجمالى عدد فروع قدره 77000 فرع بمعدل فرع واحد لكل 4200 نسمة. نسبة التغطية واحتدام المنافسة واضح. أحد العوامل بالطبع هو نسبة الاحتواء المالى التى تكلمنا عنها أعلاه، ولكن قد يقول قائل إن نسبة الاحتواء المالى منخفضة فى مصر بسبب انخفاض عدد البنوك والفروع العاملة وصعوبة الوصول لخدماتها وليس العكس. بدلا من الدخول فى مشكلة البيضة أولا أم الدجاجة، رأيى المتواضع أن المشكلة فى طريقة ترخيص البنوك. البنك المركزى والحكومة قررا أنهما يريدان ضمان الأرصدة كلها فأصبح ترخيص البنوك صعبا ومحدودا. من ناحية يضمن ذلك نوعية الإدارة وأموال المودعين ضمان قد يكون من ضمن أعلى المعدلات فى العالم ولكن فى نفس الوقت يجعل المنافسة ضعيفة على حساب العميل. انعدام المنافسة أيضا يجعل معدلات مكاسب البنوك العاملة فى مصر من ضمن الأعلى عالميا، ربنا يزيد ويبارك لكننا نستحق خدمة تلائم هذه المكاسب. فى أمريكا التراخيص أسهل ومفتوحة لمن يستوفى الشروط. ساعد هذا على خلق بنوك أكثر تخصصا فى القطاعات أو فى المناطق التى تعمل بها مما يجعلها أكثر قدرة على جذب مودعين جدد. تخيل مثلا بنك زراعى متخصص لمنطقة شمال الدلتا يوظف من أبناء المنطقة وبفروع ولو صغيرة فى كل منطقة ويوفر منتجات وعروض مصممة خصيصا لهذه المنطقة. أتوقع أن ذلك سيزيد من نسبة الاحتواء المالى فى المنطقة ولكنه يزيد أيضا من نسبة المخاطر، مثل هذا البنك يجب أن يكون بنك قطاع خاص، واذا كررنا التجربة وفتحنا باب التراخيص فيجب أن يكون الاشراف أكثر قوة ووقتها ربما وجدت الحكومة أنها يجب أن تقلل من نسبة ضمان الحسابات. معضلة ولكنها ليست مستحيلة ونستطيع حلها بالتأكيد اذا أردنا.
نتكلم كثيرا عن خروج القطاع غير الرسمى «من تحت السلم» وعمله فى النور لنستفيد من حصيلته الضريبية. كفاءة عمل القطاع المصرفى بالتأكيد من اهم المحفزات للوصول لهذا الهدف. كفاءة النظام الضريبى تأتى فى المقام الأول بالطبع ولكن هذا ليس موضوعنا وإن كان مرتبطا به بعض الشىء. حاولت الدولة والبنك المركزى كثيرا خلق محفزات للشركات المتوسطة والصغيرة وتعجب البعض أن ذلك لم يحفز الشركات العاملة فى القطاع غير الرسمى عن الاعلان عن نفسها. وكيف يحدث ذلك بينما الاشتراطات نفسها تعجيزية لهم. مثلا، مبادرة الفائدة المدعمة كانت تشترط أوراقا وحسابات غير متوافرة للقطاع غير الرسمى. ماذا لو راجعنا الاشتراطات؟ هناك مبادرة جديدة قادمة من البنك المركزى بسعر فائدة مدعم بغرض تحفيز الصناعة وتشجيعها لاستبدال المنتجات المستوردة، ماذا لو قلنا إن الشركات حديثة التأسيس تستطيع الحصول على جزء من أموال المبادرة اذا كانت الدراسة الائتمانية منطقية؟ نسبة المخاطرة أعلى بالتأكيد ولكن ثمن إبقاء هذه الشركات خارج المنظومة أغلى. يجب أن تأتى مع المبادرة مساندة حكومية قوية لاستيفاء التصاريح والاشتراطات الفنية. مثل واحد أو اثنين فى البداية والاعلان عنهما قد يكون كاف لاطلاق حركة واسعة فى السوق أو على الأقل خلق أمثلة يحتذى بها. مصنعو تحت السلم يعرفون السوق جيدا ويتحركون بداخلها بمهارة، واذا وفرنا لهم دعما مصرفيا وحكوميا قد تخلق لديك طبقة صناعية صغيرة ومتوسطة قوية تشجع على انطلاقة أوسع. هذا هو المثال التايوانى. اذا سألتك عن شركة كبيرة من كوريا الجنوبية قد تقول هيونداى أو سامسونج أو ال جى، ولكن اذا سألتك عن اسم شركة كبيرة تايوانية واحدة بدون استخدام الانترنت فأتحدى أن تستطيع تسميتها. هو اقتصاد قائم على آلاف من الشركات الصغيرة والمتوسطة التى اتقنت صناعاتها على مر السنوات. فى طفولتى أتذكر أنه عندما كنا نريد أن نقول على شىء أنه ضعيف الصناعة أو تقليد، كنا نقول إنه تايوانى. اليوم تايوان رائدة فى صناعة الالكترونيات والمنسوجات والماكينات وحتى الأدوية. مشوار طويل بالتأكيد ولكن يجب أن يبدأ بخطوة وهذه الخطوة تبدأ بدفعة حكومية واعادة تركيبة النظام المصرفى ليكون متمحورا حول العميل، عاطيا دفعة أقوى للاقتصاد من التى شهدناها فى الأعوام السابقة.