هل ما زال هناك ما يمكن أن يكتب عن الحب، بعد قرون من الأدب والفنون وعلم النفس المختصة بعلاقة تجمع الأفراد ولا يمكن فك الأسرار عنها؟ هل هناك ما يمكن إضافته إلى بحر من الكلام والفنون وكل أدوات التعبير التى وصفت عوالم بأسرها مبنية على الحب والمحبة والمودة والألفة والعشق والهوى والجوى، وكل الكلمات الأخرى التى تصف عواطف تعصف بنا ثم تهدأ فتترك وراءها فراغا إن ذهبت؟
***
فى يوم الحب، وبغض النظر عن تقييمنا لمفهوم يوم الحب ولمظاهر الاحتفال به التى أصبحت تذكر بالكرنفال أكثر من تذكيرها بالعلاقات الإنسانية، أنظر إلى ما فى قلبى فأراه كلحاف مرقع على طراز الـ«باتش وورك»، وترجمته «شغل الترقيع»، أى أنه مجموعة من قصاصات القماش الملونة التى قد يظهر للوهلة الأولى أن لا تناغم أبدا بين ألوانها، إنما حين جمعها أحدهم فى لحاف واحد ظهر للعيان عمل فنى مبهج فى اختلاف مكوناته، غريب فى قدرته على أن يضم المخطط والمنقط والسادة دون أن يبدو أن فى المنظر نشازا. والطريف فى هذا النوع من اللحافات تحديدا هو أنه غالبا ما يتم تجميع قطع القماش بشكل يبدو أنه يدوى وليس محبوكا بآلة الخياطة، فيعطى ذلك شعورا بأن أحدهم قد أخرج من السلة إبرة وخيطا وحاك حلقات من الحياة بعضها ببعض، وعلى مراحل مختلفة، بصبر وبأذن من يسمع قصصا عن القلب والمدرسة والجيران والأهل.
يبدو اللحاف وكأن أحدهم حاك منظرا من يوم شتوى تكون الشمس قد هربت فيه من المطر، فجلسنا فى البيت ننظر إلى العالم من خلف النافذة. بالقرب منا غطاء قد وضعناه هنا تحسبا لتلك الساعة التى سوف نحتاج فيها إلى ملمسه ودفئه. نبقى فى مكاننا بينما يبهت ضوء النهار، فى يدنا إبرة وخيط نثبت بهما على اللحاف منظرا آخرا لكوب من الشاى بالقرفة. لماذا بالقرفة؟ ربما لأن رائحتها السكرية تذكرنى بمطبخ فرنه ساخن، يتحرك من فيه فى إيقاع سريع لتحضير وجبة العائلة. على الأرض تمشى الطفلة، أصغر أفراد البيت وأكثرهم دلالا، وهى تمسك بيدها قطعة خبز وتشير إلى رف لا تستطيع الوصول إليه. أنظر إليها فتبدو لى بعينيها الكبيرتين وفمها الممطوط بضحكتها الكبيرة وكأنها شخصية مرسومة فى أفلام الكرتون. أضم خيطا جديدا فى الإبرة لأحبك هنا، قرب منظر ابنتى، صورة أخى وهو فى المدرسة الابتدائية، بشعره الذى يغطى عينيه، وهو يلعق حلوى معلقة على عود خشبية اشتراها من بائع متجول كان يقف كل يوم أمام بوابة المدرسة. ينقطع الخيط إلا أننى سرعان ما أبدله بغيره، فأنا أريد أن أثبت صورا بدأت تتطاير من حولى لا أعرف من أين أتت، فقد نسيت الكثير من محتواها إلا أننى أتذكره حين تقع عينى عليها.
***
كثير من الحب هو ما نشعر به حين نفرد اللحاف الملون علينا، فيغطينا بقصص تربت علينا وكأننا ما زلنا أطفالا تمسح جدتنا بيدها على شعرنا. أجلس وحدى فأبتسم إذ يحضرنى موقف حدث مع أحد الأصدقاء الذى رأيته الأسبوع الماضى بعد سنوات من الصداقة الافتراضية التى أعادت روابط قطعها الزمن والجغرافيا. كثير من الحب فى مساء يوم من أيام هذا الأسبوع لا مناسبة تميزه، لكننى أقرر أن أغلى فيه الحليب والسكر لأصنع المهلبية، فأنتقل فى لحظة إلى دمشق، وأقف فى طابور فى يوم بارد مثل اليوم أمام بائع السحلب، أنتظر دورى كى أشترى منه كوبا من السحلب الساخن يغطى البائع وجهه بالقرفة والفستق. ها هى القرفة تظهر من جديد، ها هى دمشق أيضا تظهر على اللحاف مع رائحة القرفة.
كثير من الحب هو فى محاولتى أن أثبت على اللحاف أجزاء من حياتى اعترافا منى بأنها قد حدثت بالفعل، وألا أجرب أن أتخلص منها بزجها تحت السجادة. هذا النوع من الخياطة يساعد على التصالح مع بعض القصص الحزينة، إذ بإمكانى أن أخيطها فى زاوية، أو أن أحصرها على اللحاف بين كثير من القصص السعيدة، فتستمد منها ألوانا سعيدة. القصص القاسية أضع منها قصاصة صغيرة جدا قرب قصاصة تذكرنى بليلة العيد، أى عيد، حين كانت أمى تفرد عجينة المعمول وأصر أنا على أن أساعدها حتى ساعات الليل المتأخرة.
***
كثير من الحب هو ما نحتاجه فى أيام اليأس والغضب والشعور بأننا لم نعد نستطيع المضى قدما بسبب كثرة الأخبار السيئة التى يحلو لها أحيانا أن تتكالب علينا، فنتساءل إن كانت تتقصدنا نحن بالتحديد. أنا عن نفسى لا أنتهى من حياكة اللحاف، فكلما خيطت قصة عليه اكتشفت فراغا ينتظر أن أضع عليه حلقة أخرى من حياتى. التحدى هو إن كنت أستطيع فعلا أن أفرده كاملا فى يوم أكون فيه جالسة لوحدى عند المغرب فأعيد النظر فى اللحاف كاملا، فى حياتى كاملة بعد أن أعطيت لكل قصة المساحة التى أراها مناسبة.
كثير من الحب هو ما سأحتاجه دوما وأبدا حين أفرد اللحاف بحلوه ومره، حين أتصالح مع أجزائه المظلمة، فأنا لملمت القطع وثبتها بين بعضها البعض لأصنع اللحاف مستخدمة خيوطا يلونها كثير من الحب.